د.فوزية أبو خالد
تتنازعني اليوم عدة مواضيع ملحة؛ تستحق الكتابة عنها، أو على الأقل التوقف لتأملها تأملاً مشتركاً بيني وبين القراء. وتتراوح هذه المواضيع في تنوعها على سلم الاهتمام اليومي والمصيري ما بين سقف الرغيف إلى ما فوق سقف الحلم, من مطلب الحفاظ على السلم الأهلي إلى هواجس حالة الحروب المحيطة بنا وبمنطقتنا..
.. ومن القلق المالي على الاقتصاد الوطني إلى سؤال كفاية الحاجات الأساسية للمواطن، ومن التعامل مع تحديات الحاضر في تعالقه مع الماضي في إطار واقع اجتماعي معقد ومتعدد ببطانات سافرة وأخرى معقدة إلى التوق المستقبلي للاستقرار والتقدم معاً.
ونظراً لما أحسه تجاه قائمة هذه المواضيع على ضخامتها وثقل حمولتها من مسؤولية شخصية ومسؤولية وطنية وقلق وجداني وعقلي معاً, وكأنني أريد أن أحمل بريشة نحيلة بحراً شاسعاً متلاطماً، فقد تعثرت في تحديد البحث والحديث في واحد محدد من تلك التحديات، ووجدتني أزج بالقراء معي في محاولة قراءة تحرك الشجر بالعين المجردة.
فالوطن اليوم والمجتمع يواجه عدة تحديات، بعضها طارئ، وبعضها مستجد، وبعضها متعالق مع تحديات مزمنة، لم ننجح في تجاوزها بعد، وبعضها قد يهدد - لا سمح الله - إنجازات لم نبلغها إلا بكفاح وجدال اجتماعي طويل، وأهمها إنجاز الوحدة الوطنية السياسية، ونجاحنا إلى حد كبير في تحويلها إلى نسيج اجتماعي شديد التقارب على تعدده، وإلى هوية موحدة.
ولو حاولنا بحث وتحديد تلك التحديات على المستوى المعيشي اليومي، وأنا أفترض أنني أتمثل صوت المواطن أو على الأقل أتخيله، فسنجد تحديات متعاظمة, من أكثرها إلحاحاً تحدي إصلاح التعليم، تحدي مواجهة البطالة، تحديات الصحة، تحدي تأمين السكن, تحدي البنية التحتية.. وباختصار هي تحديات تتعلق بسؤال مسؤولية الدولة عن توفير الخدمات الأساسية على ما تعوّده المواطن منذ تأسيس الدولة السعودية، ومع ارتفاع أسعار النفط بالاعتماد شبه المطلق إن لم يكن المطلق على الدولة، وبعيداً عن مشاركة القطاع الاستثماري الخاص ومنظمات العمل الأهلي؛ لأن الأخيرة لم توجد أصلاً إلا بأشكال رمزية وهشة. مع ملاحظة أنني في الحديث عن التحديات المعيشية اليومية قد أغفلت إغفالاً تاماً عن عمد ورأفة بالرقيب تناول تحدي مطلب إيجاد كيفيات جديدة للشراكة الوطنية كبديل لأطر العلاقة الرعوية.
أما في محاولة تحديد التحديات المصيرية، وهذا مجرد فصل إجرائي بينها وبين المعيشي، فسنجد أن هذه التحديات تتعلق بحزمة من القضايا المتداخلة بين بعضها البعض، أو المستقلة عن بعضها الآخر استقلالاً نسبياً لا قطعياً. فتتعلق أولاً بمواجهة الإرهاب الداعشي الجديد الذي يمثل امتداداً وتفريعاً على الإرهاب بمعناه القاعدي. وتتمثل ثانياً وثالثاً في مواجهة الشحن الطائفي والتسميم المذهبي وتوظيفه لتهديد السلم الأهلي واللحمة الوطنية، بما يحمله ذلك من مواجهة على مستوى داخلي ومواجهة خارجية متمثلة في تفكيك لعبة النار لدولة إيران الطائفية. وتتمثل رابعاً في المسؤولية المركبة الخليجية العربية والإقليمية التي تضعها الدولة السعودية على عاتقها في مواجهة الحروب التي تفتحت في خاصرة البلاد الجنوبية والشمالية، إلى جانب الحرائق الأخرى على امتداد الوطن العربي بما هو جانبي منها، وبما هو على عمق خطير (أوضاع سوريا، العراق، لبنان الأردن، ليبيا، وحتى مصر، إن لم نقل خصوصاً مصر). فضلاً عن الموقف دائم الالتهاب في فلسطين.
أما خامساً فهناك التحدي المالي الذي قد نواجهه بقوة نتيجة الانخفاض الحاد في أسعار النفط إلى ما دون نصف ما كان عليه سعر برميل البترول في الأعوام الماضية من العقد المنفرط ونصف العقد الحالي، مقابل التزامات داخلية سخية ومستجدات لالتزامات أمنية وعسكرية وسياسية داخلية وخارجية كبيرة. وإذا كان يهمنا ألا نتعامل مع تضخيم التقارير التحذيرية بإفلاس الخزينة التي يشتم من بعضها رائحة تشفٍّ وغل، ينم عن عداء سافر للملكة، فإننا معنيون حكاماً ومحكومين، وبدافع وطني لا شك فيه، وبشفافية تليق ببلادنا، بمواجهة هذا التحدي، وبالتصارح في احتمالاته ونسبتها، وبكيفية مواجهته، ونوع الإصلاح العاجل المطلوب اقتصادياً وسياسياً، ومداه وقواه، التي يحتاج كل منا إلى الانخراط فيها، وتحمُّل مسؤوليتها.
ونحن في البداية والنهاية وطن ومجتمع حكومة وشعب، لو لم ندق صدورنا، ونشمر عن سواعدنا، ونجلِ بصائرنا، ونعمل عقولنا بحرية؛ لنتحمل مسؤولية المواجهة يداً بيد للخروج من هذا التحدي قبل التحوُّل إلى أزمة مالية ووطنية مستفحلة، فإننا قد نجد أنفسنا ندفع أثماناً باهظة من أساساتنا المعيشية والوجودية، تجعلنا نسقط في اختبار مواجهة أي من التحديات الأخرى - لا سمح الله -.
لا نريد أن نصل إلى مرحلة أن نقول ما أشبه الليلة بالبارحة؛ إذ نستسلم - لا سمح الله - وإن كرهنا لنفس صيحة طفرة النفط الأولى من منتصف السبعينيات الميلادية إلى الثمانينيات، التي أخذتنا على حين غرة بنوع إدارتنا الاجتماعية والسياسية ونوع استجابة المجتمع الاستهلاكية، بل نريد إرادة وطنية مشتركة، تسير الرياح بما تقتضي مواجهة التحديات من شجاعة وشفافية.