د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
في حياة كلٍّ منا أفكار مشروعاتٍ يراها الأهمَّ لديه مؤملًا تنفيذها في زمن مبكر أو متأخر من عمره لكنها تتوارى في ضجيج الحياة اللاهثة وقد تُنسى فلا يبقى منها غير ضوءٍ خافتٍ تستدعيه ذاكرته دون أن تتجدد به ذكراه حين لا يبقى ذكر ولا تذكر.
** ليس الحديثُ هنا عن مشروعات مادية لسبب يسير وهو أن الإمبراطورياتِ الماليةَ أرقامٌ مجردة يعيش بها ذووها وقتًا رغدًا ثم يغادرونها وتغادرهم ؛ فحقُّه منها أرصدتُه حيًا وتركته ميْتًا وحسابه آخرة، كما لا يتماسُّ مع المشروعات الخيرية التي تبقى بين المرء وخالقه وقد ينقص أجرُها بالإعلان عنها، وإذن فالموضوع معنيٌّ بالمشروعات الثقافية والاجتماعية ذات الطابع التجريدي أو التجريبي لمن يعنيه العلم والخدمة المجتمعية؛ تأليفًا وتثقيفًا واختراعاتٍ وأعمالًا تطوعيةً يزكي بها بدنَه وعقلَه فليس المالُ وحده ما يُزكَّى.
** ما الذي يضيرُ معلمًا نابهًا أن يقدمَ دروسَ تقوية مجانيةً لشباب حارته في الرياضيات والعلوم واللغات فيقيهم ويقويهم، ولِم لا يستثمر الطبيب الحاذق بعض وقته خارج عيادات الكسب ليعمل في مستشفى أو مستوصفٍ عام بمدينته أو قريته، ولِم لا يقدّم الإعلامي القادر تدريبًا عمليًا دون مقابل في الكتابة والتحرير والإلقاء، وماذا عن الكاتب والباحث؛ فلم لا يبذل وقتًا للقاء الشباب الباحث عن المعرفة في حلقات نقاش ومحاضرات عامة؟ وهل يلتفت الرموز إلى مُسَوَّدات أعمالهم فينشروها خدمةً للثقافة وذويها وليس للتكسب بها وتسويقها للمستودعات؟
** في زمن لم ينأ كثيرًا كان في أساتذتنا من يُحضر طلبته بعد صلاتي الفجر والعصر كي يشرح لهم ما استعصى عليهم دون أن يفكر بمقابل مادي منهم أو من مؤسسته التعليمية، وكان فيهم من فتح منزله للطلبة واستعان بزملائه المعلمين من مختلف التخصصات كي يقدموا لهم دروسًا إضافيةً تغنيهم عن «تجار الشنطة»، وما يزال فينا اليوم من يقصد مدينته لعيادات تطوعية، ومن يشارك بوقته وجهده في مؤسسات المجتمع المدني.
**أما صاحبكم فيلح عليه في لحظاتِ صفوه إصدارُ «خربشاته الشعرية» وكتابة سيرته الذاتية وجمعُ أوراقه البحثية ومضاعفة أدائه في بعض جمعيات النفع العام.
**يعلم - وقد تخطت مؤلفاته الفردية ثلاثة عشر كتابًا، وتآليفه « بالمشاركة والتحرير « ثلاثة عشر أخرى ليبلغ نتاجه بعد إصدار هذه المشروعات ثلاثين عملًا - أنها تعنيه وحده لا سواه ؛ فلن يهتم بها غيرُه وثلةٌ من محبيه وهو أمرٌ لا يضعه في حسابه الآن وإنما توثيق وتدقيق نتاجه وإقفال ملفاته وتركها للريح تبعثرها أو للروح تسكنها أو للزمن يتداولها فربما اصطفت - مع نتاج عصرها - شاهدةً على رحلة أو ناطقةً بمرحلة.
**الوقوفُ نهاية.