عبد الرحمن بن محمد السدحان
* عدت إلى بلادي الغالية من بعثتي الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من أربعين عاماً، ورغم ذلك، ما برحتُ رؤى وتداعيات تلك المرحلة المفصلية فـي حياتي (سيمفونية) تغرد فـي ذاكرتي، لا أبتغي عنها حولاً!
***
* والسبب في ذلك أن المدة التي أمضيتها في مدينة لوس أنجلوس دارساً، عبر مرحلتيْ (البكالوريوس والماجستير) منحتني فرصة (إعادة) اكتشاف نفسي لأعيش من خلال ذلك تجربة ميلاد جديد، مقروناً بالإيمان بالله ثم بالعزم على تسخير وقتي وقدراتي خدمة للغاية النبيلة التي أوفدت من أجلها إلى تلك الديار البعيدة ،حتى منّ الله علي بالنجاح!
***
* وهنا، أجرؤ على القول بأن لتجربة الدراسة الجامعية فـي أمريكا تحديداً مساحةً أثيرةً فـي نفسي لا تغرب عنها شمس الذاكرة، ولا يغادرها قمرُ الحنين، وأن الذين أمّوا تلك الديار البعيدة من أبناء هذه البلاد لغرض الدراسة عبر العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي وجزء من هذا القرن الحادي والعشرين عادوا منها أصنافاً من البشر:
***
* منهم من أفلح فلاحاً تخَطى به الصعاب نحو التميز، استيعاباً ونمواً وإنجازاً، وساحات العمل والإنجاز غنية بمثل هؤلاء.
* ومنهم من عاد بذاكرة (معلبة) بمعلومات وانطباعات وشوارد في الذهن والروح سرعان ما جارت عليها (بكتريا) الزمن.. فغابت بلا أثر ولا تأثير!
* ومنهم من تردى حظُه ولازمته تبعات ذلك في الغربة وبعد العودة إلى الوطن.
***
* وهناك فئة رابعة من المبتعثين لم تتجاوز تجربة أحدهم في العالم الجديد (أمريكا) جدران مأواه، والدرب الذي يسلكه إلى جامعته وقاعة الدرس التي تحقن فيها ذاكرته بما حوته الكتب المقررة، وهو يتلقى كل ذلك بصمت المستسلم.. بلا سؤال ولا تساؤل ولا اعتراض، فنال من العلم واللغة حداً أدنى أحرز به شهادةً ما.. ثم عاد إلى الوطن (عذريَّ) الذهن والوجدان، وسرعان ما أدركته عوامل (التعرية) الزمنية والاجتماعية والأسرية لتطمس الكثير من معالم شخصيته قولاً وعملاً، فلا يبقى منها سوى (أطلال) تذكَّر به فحسب!
***
* وهناك فئة خامسة من المبتعثين فقد أحدهم توازنه في العالم الجديد منذ اللحظة الأولى، انبهاراً بما استقبلته حواسه الخمس، فمنح الدراسة من نفسه حداً أدنى: وقتاً واهتماماً وجهداً، وراح يتعامل بـ(بوهيمية) ظاهرة أو مستترة مع المواقف والأشخاص بهدف حيناً .. وبلا وعي أحياناً، وقد يصاحب ذلك تعثُر في الدراسة، فيقفز إلى هذه الكلية أو تلك، مستفيداً من (مرونة) النظم التعليمية في بعض الجامعات هناك، ثم يفوز في النهاية بشهادةٍ قبل أن يحزم حقائبه عائداً إلى وطنه مشدوهاً بما رأى وسمع وذاق من لذات الحس، وبرصيد متواضع من اللغة والفهم والاستيعاب لمفردات الحياة هناك وعياً واستنتاجاً، وقد تقترن عودته إلى الوطن بـ(حواء) تكسو عينيها زرقة البحر تلخص حصاد (ركضه الاجتماعي) في ديار الغربة، وليضع أهله ورفاقه.. و(فتاةً من الوطن) ربما كانت تترقب عودته أمام حتمية (الأمر الواقع)!
***
* وهناك من المبتعثين من منحه الله نعمة التوازن عقلاً وبصيرةً ووجداناً، فلم يفرط في واجبات المهمة الشريفة التي شد الرحال من أجلها، وكان التفوق الدراسي همَّه وغايتَه، ولم ينس في الوقت ذاته نصيبه من زاد الثقافة ومتعة الخاطر البريئة، وعاش تجربة سويةً مع مصادر الإشباع لهذا وذاك، متيحاً لنفسه فرصة (التعلُّم) بمفهوم أرحب وأغنى، وامتصاص المفيد من مخرجات الثقافة المحلية دون أن تهتز في نفسه هوية الولاء لثوابته وقيمه وجذُوره، أو تتعثر في عزمه آلية الإصرار على إنجاز مهمته، ففاز بالنعيمين : تفوّق في الدراسة مكنه من بلوغ المراد، وحصَاد من المعرفة والثقافة والخبرة منحته شفافيةً وانفتاحاً حيال نفسه ومن حوله!