د. جاسر الحربش
لم تتجذّر في البيئة العربية شجرة كذب قوية لتثمر كاذبين مهرة يستطيعون التصدي لمهارات الأعراق والشعوب الأخرى في الكذب على بعضها وعلى العرب بالخصوص. يتكرر الحديث بيننا كعرب بأننا نعوِّد أطفالنا على الكذب، وأننا كعرب كبار نتكاذب كثيراً. هكذا وبالتعميم تصبح التهمة افتراء ولا يمكن أن تصدر إلا من شخص لم يتعايش لزمن كافٍ مع العجم والروم واليهود والترك والكرد، أو يشاهد ويسمع حواراتهم في الأفلام والمسرحيات عن مجتمعاتهم، ليكتشف تسرُّعه في الافتراء على مجتمعه، إما بسبب سطحيته في الحكم من أول ابتسامة وكلمة شكراً أو تفضّل، أو لحنق مكبوت بداخله بسبب تجارب شخصية غير قابلة للتعميم.
نعم، نحن كمجتمعات عربية نكذب كثيراً، ليس أكثر من الأعراق الأخرى بالضرورة، ولكن بطريقة أكثر سذاجة وخالية من التخطيط المسبق. نحن نكذب ونتكاذب في صغائر وتوافه الأمور، أما اليهود والعجم والروم فهؤلاء يحتالون عند الكذب بتقديم العقل على العاطفة، لتصبح كذبة الواحد منهم محبوكة وقابلة للتصديق. كذبنا كعرب سطحي لا تفكير خلفه ويسهل اكتشافه خلال دقائق، عندما نكذب باستمرار ونكرر ذلك، إما للتخلص من موعد لا نريد الالتزام به، أو للتأخر عن الحضور إلى العمل، أو عندما نكذب على أطفالنا للتخلص من الإزعاج والإلحاح.
مع ذلك تهون مصيبتنا في هزالة قدراتنا النوعية على الكذب أمام فقداننا الكامل لمهارات الكذب المحكم في المحافل الدولية والتجمعات الوعظية، حين يستعمل الكذب الجيد كسلاح دفاعي ولتحقيق مكاسب وطنية. قرأ عربي مصري خفيف الدم، كالعادة، في الصحيفة أن اليهود يقولون للعالم إن الحمص والفلافل من الأطباق اليهودية التراثية، فرفع رأسه وتمتم: يا نهار أسود كل السنين دي وأنا عايش على أكل اليهود؟.
المهم في هذا المجال الحيوي، مجال القدرة على الكذب المحبوك، أن الموهبة في الكذب الدبلوماسي والسياسي ضعيفة جداً عند العرب، مقارنة باليهود والعجم والروم، وإلى حد ما بالكرد والترك.
أما فيما يخص استعمال الكذب كسلاح للإقناع في المجالس الوعظية، فيستحسن المقارنة بين نوعين من القدرات. بعض الوعّاظ السنّة يقول بفوح روائح المسك من جثث المجاهدين، أو بحضور ملائكة بملابس بيضاء على خيول بيضاء لنصرة المقاومة في سوريا، أو بتقديم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم لرئيس مصر المخلوع مرسي لكي يُؤم المصلين في حضور رسول الله. لأن هذه الكرامات لم يذكرها أسلافهم حتى عند الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، لا يزيد تفاعل السامعين السنّة عن هز الرؤوس والصمت والتلفت إلى الجوار لسبر التفاعل مع الموضوع.
الأمر يختلف في مجلس الوعظ الشيعي الصفوي، في بلاد العجم وعند من تصفوى معهم من العرب. هناك يستطيع الواحد أن يسرد من الخرافات والأعاجيب ما لا يصدقه حتى المصاب بداء الفصام المتعدد، ومع ذلك تجد المستعين في حضرته يبكون مدراراً لبكائه ويصدحون معه عندما يغني وكأنهم يصدقونه، وهكذا يكون التكاذب للإقناع على طريقة العجم وإلا فلا.
بسبب هذه الملَكات والمهارات الأعجمية على الكذب، ولو كسبب جزئي ولكن فعّال، نجد الحضور السياسي والإعلامي الإيراني مؤثراً في المحافل الدولية ويقابل بالاندهاش والإعجاب. يُقال على سبيل المثال للمواطن الإيراني في الداخل إن جمهوريته تحقق على طول الخط انتصارات مدوية ضد قوى الاستكبار ومن معها، أما في الخارج فيُقال للعالم إن شعوب المنطقة غير الإيرانية مظلومة ومنهوبة، وكل ما تريده الحكومة الإيرانية مدّ أيادي الصداقة والمساعدة لهذه الشعوب لتصحيح الأوضاع. هكذا استطاع دهاقنة السياسة الإيرانية تسميم جمعيات حقوق الإنسان وعقول شباب العالم ضد العرب كحضارة وشعوب وحكومات.
يبقى الاعتراف بأن اليهود، كتجمع سياسي واجتماعي متضامن هم أكثر خلق الله قدرة على الكذب المحكم. في سطوتهم وتحكمهم في مجالات السياسة والمال والأعمال والإعلام على كل شعوب الأرض من الأدلة ما يزيد على الحاجة. آخر كذبة يهودية كانت الادّعاء بأن المرحوم الحاج أمين الحسيني هو الذي أقنع هتلر بإحراق اليهود في الأفران. أخشى أن يصدق العالم ذلك يوماً ما مثل ما صدق أكاذيبهم السابقة. اليهود يتفرّدون بخاصية أن تكاذبهم على بعضهم قليل، مع الاتفاق الشامل بينهم على أن الكذب على الأغيار حلال ومسألة حياة أو موت.
ماذا عن الروم، أي الغرب بجناحيه ومعهم الروس البيض؟.. هؤلاء كذبة دهاة يغزون ويدمرون وينهبون ويزوّرون التاريخ، ثم يقدمون ذلك في قوالب دعائية جذابة من البطولات والتضحيات الإنسانية. الروم يحتفظون بمواهبهم الفذة في الكذب المحكم للمهمات الضخمة مثل تدمير البلدان ومحو الحضارات ونهب الشعوب.
الخلاصة: على العرب تحسين مهاراتهم في الكذب لمجاراة الآخرين على الأقل في هذا المجال.