د. خيرية السقاف
إن ذهبت لتأويل عبارة وزير الإسكان بأنّ جانباً من مشكلة الإسكان تعود لثقافة الأفراد، وفكرهم وتعمّقنا في واقع طريقة تفكير العامة، والخاصة في رغباتهم عن «بيت السكن» وبنيته، سواء بيتاً صغيراً أو كبيراً، مستقلاً أو وحدة في مجموع، خاصاً أو مؤجراً، من حيث نمطه، وحجمه، وسعته، وأثاثه، ومظهره، ومنزلته بين الناس، لقلنا والله إنه لصادق على حق، ولقلت إنني مع هذا التأويل..
ذلك لأنّ مشكلتنا مع «الإسكان» الذي يريده كل فرد تتعلّق بالسائد من عدم الرضا بالبيوت الصغيرة، التي تتفق مع الحاجة، وتناسب الدخل، فالناس بيننا - على أيِّ حال - لا يرضيهم بيت بلا مساحات خارجية ذات زراعة، وإن تفاوتت في الكمية، وله مداخل للعربات وإن كانت واحدة - مع أنّ هذا الأمر خيالي -، وملاحق للسائقين، وحجرات وإنْ واحدة للخادمات، وأجنحة وإنْ تقلّصت للأبناء، وحجرات للطعام وإنْ بقيت مغلقة إلا للضيوف حين يزورون، وإنْ تباعدت زياراتهم، ناهيك عن الإضاءة، والتكييف، والمسابح وملحقاتها، وحجرات الغسيل وكي الملابس، والمطابخ وملحقاتها، كل هذا باختلاف مساحاتها، وعدد أمتارها المربعة، يسر دخل الفرد أو علا سقفه.
فالفرد في مجتمعنا تعوّد العيش ذا الزوائد، والأطراف في كل شأن، إلا ذوي الفاقة مع أنهم يتجاسرون بكل وسيلة، وعن أي سبيل..!!
نعم، لم تَعُد الأسرة ينام أبناؤها في حجرة واحدة، ولم تَعُد حجرة المعيشة للأسرة يجتمعون فيها للقاء أفرادها الموحد، حيث يتبادلون الحديث الجمعي، ويتناولون الوجبات، بل لكل غرض حجرته الخاصة، أضف إلى ذلك المكاتب الشخصية ذات الأرفف العديدة للكتب، ومقتنيات الزينة، .. ولعل دراسة تقنّن عدد المتعاملين بهذه الثقافة الجمعية عن دار المعيشة، تكشف تفاصيل محتوى تفكيرهم في هذا الشأن بشكل جلي.
وهي مشكلة عامة وملموسة ..؟!
أليست هناك كثير دائم من حوارات وجدل بين الآباء وأبنائهم، أو بينهم وزوجاتهم حين يكون البيت صغيراً في نظرهم، أو حين يكون قديماً ويتأخرون عجزاً عن تجديده، أو ترميمه، أو استبداله بأكبر، وأوسع، وأثمن ؟، أليست المقارنة قائمة في حواراتهم يريدون بيتاً يشبه منزل الزميلة، والصديق، والجارة، والقريب، هؤلاء الذين يوضع في الاعتبار رأيهم في سكن من يسكن بيتاً لا يتماشى مع السائد..؟
أعرف شخصياً عديداً من الأسر رممت بيوتها لتوسعها، أو بحثت عن بيوت أوسع، و»أفخم» بحجة أنّ بناتها « في سن زواج»، فكيف يستقبلون من يتقدم لخطبتهن، - فعيب أن يقول الناس عنهم «بخلاء» - اتقاءً لنقد الناقدين ولوم المقتدرين، وهناك الكثيرات من الشابات من رفضن
« العريس» لأنّ «بيتهن» لا يليق، ومحتواه ليس يتماشى مع النظرة العامة.. مع الوضع في الاعتبار أنّ هذا لا يحدث في طبقة اجتماعية بل في جميع الطبقات بتفاوت مقدراتها ودخلها المالي.
لذا كثير من المقترضين يفعلون لأجل شراء بيوت تليق بمكانة العمل، أو بلقب الأسرة، أو « لرفع معنويات «الأهل» - الزوجة والأبناء -، أو لدرء الملامة، والشماتة، والاتهام بكثير من الصفات التي تحرض النفوس على ركوب الصعب من أجل السكن المتوافق مع «ثقافة» المجتمع العامة، ونظرتهم، وطريقة تقييمهم للفرد من خلال «منزله»..!!
مما يدفع كثيراً من الشباب لأنْ يلتقوا زملاءهم في المطاعم، وعلى الأرصفة لأنّ بيوتهم مدعاة لخجلهم «ماذا يقول الناس عنا» يردّدونها ليلَ نهارَ على مسامع والديهم، الذين يمرضون بعضهم من ثقل التفكير في شأن «السكن» المتماشي مع ثقافة الأبناء، والزوجات، والناس، أو هم أنفسهم!!..
فقد تفاقمت أطماع الغالبية في نوع، وحجم ومقتنيات، وسعة منازلهم، وهم لا يستطيعون تكاليف هذا، حتى إن كان « المنزل « مستأجراً لا يملكه الساكن على أي نمط يكون.
فثقافة الأفراد العامة عن نوع «السكن» في مجتمعنا ثقافة تبعد كثيراً عن الواقع، وحاجة المعاش، وقيم الحياة البسيطة، مع أنه لا يوجد ما يمنع في صغر البيت من أن يكون جنة الله في أرضه، تآلفاً، وتنظيماً، واطمئناناً، ورضا حين يُقتنى السكن ليكون مأوى حنوناً لأفراده، بقناعة تمكنه من كل احتياجات المعاش الجميل، وإنْ لم تزد حجراته عن اثنتين دون الزوائد، والشوائب، والمتراكم، والذي يفرغ للصدى، وللمناسبات المتفاوتة. !!
غير أنّ النفس البشرية تطبّعت بالسائد، وتشكّلت عنه قناعاتها، ورسمت بنمط تفكير المجتمع، وخبراته بغير ما ينبغي.
لهذا التأويل أذهب في مقولة وزير الإسكان، حتى يغير الناس هذه الثقافة، ويتبنون فكراً آخر عن مكان يسكنونه لأداء دور ذي زمن وأجل، ما يلبث هذا الدور أن ينتهي، وما يلبثون أن يغادروه ويمضوا..!
فسكن الدنيا زائل ومُورَّث، لا باقياً ومملوكاً .. !!
ولأنّ الواقع، وتزايد أعداد السكان في المدن، ومضاعفة الضغط على الخدمات العامة، وضيق المساحات في الأراضي داخل المدن، والوضع الاقتصادي للفرد، وشؤون حياتية أخرى تستدعي التغيير في سلوك الإنسان، ولا يتحقق التغيير في السلوك إلاّ بتغير فكر الإنسان، وتطعيم ثقافته بقائمة مستجدات الواقع الملحّة، والمستدامة، وليست الطارئة.
ولقد تناولت بالكتابة في هذا الجانب من الموضوع عديداً من المرات.
يبقى الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية في شأن الإسكان، وهو الذي منوطة به وزارة الإسكان ميزانية وتمكيناً، وعدالة، ومواجهة لاحتياجات جميع المواطنين ممن لا يملكون سكناً، وخصصت لهم المساحات، والميزانيات للتعجيل في أداءاتها، وتنفيذها، وتمكينها، ومواجهة أي عثرات وعسر في شأنها.