عبدالعزيز السماري
قد تمثِّل تركيا الحالية للعالم العربي النتيجة البعيدة لما يحدث في العالم العربي من صراعات حول فلسفة الدولة، وهل ستكون دولة تتحكم للمبادئ التي قامت عليها دعوة الإسلام الأولى، أم أن الدولة المدنية الحديثة أصبحت واقعاً في العالم ولا مناص عن اللحاق بالركب العالمي كما لحقت به تركيا.
مختلف الأوطان العربية معرضة للحرب الأهلية بين دعاة الدولة المدنية الحديثة وبين التيار الذي يؤمن بضرورة العودة إلى الماضي وإلى جذور الدولة الإسلامية التي تقوم على اقتصاد الجهاد وعلى أمر القتال المستمر مع الكفار حتى يؤمنوا أو يدفعوا الجزية، ويدخل في ذلك عودة بعض مسلّمات دولة الإسلام الأولى كالسبي والرق وما ملكت أيمانكم وغيرها..
ما يزيد من توتر المرحلة أن الفكرة الداعشية الحالية لها خلفية وجذور عند كثير من أبناء المجتمعات العربية، فالتعليم الديني رسّخ في عقولهم وعد عودة دولة الإسلام كما كانت في القرون الأولى، وبنفس المفاهيم والأدوات، ومنها عودة المجاهدين الذين ينطلقون عبر الصحارى والمحيطات لفرض كلمة الله عز وجل بالقوة، وكسب الغنائم والسبايا من الأعداء.
والسؤال لماذا عجزنا عن إخراج الشباب العربي من هذه الدوامة التي تعيش بكامل وعيها في الماضي، وترفض العيش في الحاضر والانسجام مع مفاهيمه وقيمه الحديثة، ثم قبول الفهم العصري للحياة السياسية، والتعامل مع الأفكار الإنسانية التي تطورت كثيراً عبر القرون، والجواب لن يخلو من إلقاء اللوم على مناهج التعليم التي كانت ولازالت تخدم أغراضاً سياسية قصيرة الأجل.
في خضم الصراع العربي، تبرز مجموعات من المثقفين الإسلاميين على السطح، وتحتل مساحات واسعة من صفحات التواصل الاجتماعي، وقد تأثروا كثيراً بحركة الإخوان المسلمين، التي نجحت في تقديم صورة حديثة للإسلامي «الأفندي»، الذي يلبس ربطة العنق والبذلة الغربية، ويتحدث عن قيام دولة الخلافة الإسلامية، ولكن ومع ذلك، يمتنعون تماماً عن تقديم نقد ثقافي لمفهوم دولة الجهاد الإسلامي كما تحصل في داعش، وهل هي بالفعل الدولة المنتظرة في العقل الإخواني أم أنها غير ذلك.
حسب وجهة نظري يعيش أغلبهم حالة من الانفصام عند الحديث عن فلسفة الدولة في العصر الحديث، وهل هي دينية جهادية يقودها رجل من الماضي، يلبس العمامة ويملك العشرات مما ملكت أيمانكم والنساء، ويحكم بصورة استبدادية مطلقة، أم هي مدنية وتحتكم للقوانين وتحترم الحريات، وتلتزم باحترام حقوق الإنسان.
بعد انتصار حزب أردوغان في الانتخابات التركية الأخيرة أبدى بعض الإسلاميين العرب فرحاً عارماً، وشهدت ساحات التواصل إشادات متواصلة بالفوز الأردوغاني، وهنا تظهر المفارقة، فالإشادة بأردوغان تعني قبول نموذج الدولة التركي في المستقبل البعيد كمثال للدولة، وقبول المبدأ العلماني الذي يناضل أردوغان من أجل استمراره.
لهذه الأسباب كنت ولازلت أعتقد أن الحركة الأفندية الإسلامية أو الإخوان المسلمين كانت بوابة ضرورية للخروج من الصندوق الذي يختبئ في داخله كثير من الشباب العرب بسبب سطوة التعليم السلفي الذي يقوم على مبدأ واحد، وهو العيش في الحاضر بعيون الماضي، والنتيجة معاداة كل شيء، ومقاتلة الجميع كما يحصل الآن من الدولة الإسلامية الجهادية أو داعش.
لا يختلف العرب بمختلف أطيافهم وأديانهم أن الإسلام هو المكون الأكبر لهويتهم العربية، لكن الاختلاف كما أوضحت في بداية المقال هو حول فلسفة الدولة، ومدى احترامها للحريات وحقوق الإنسان، ومهما أطلنا مدة الصراع الحالي لن نخرج من جادة الطريق المؤدية إلى التجربة التركية، وقد بدأت بالفعل مظاهر الاقتناع بتلك التجربة، كما يعبر عنها المثقفون الإسلاميون في إشاداتهم المستمرة بالتجربة الأردوغانية المعاصرة، والتي تقوم على العلمانية السياسية وحقوق الإنسان واحترام الحريات.
من خلال هذا الطريق سيصل الأفندي العربي الإسلاموي يوماً ما إلى كرسي الحكم في بعض الدول العربية إذا قبل بمبادئ الدولة الحديثة، كما قبل بها الأفندي أردوغان عندما احترم التعددية السياسية والحريات العامة وسيادة القانون، ثم نجح في تحويلها إلى قوة اقتصادية كبرى.