د. عبدالرحمن محمد السلطان
أعلنت شركة أرامكو السعودية الأسبوع الماضي مبادرة في غاية الأهمية، أطلقت عليها اسم «اكتفاء»، تستهدف تحقيق نمو في المحتوى المحلي لمشتريات شركة أرامكو من السلع والخدمات، بهدف رفعها من مستواها الحالي الذي تقول الشركة إنه يبلغ 35 %؛ ليتضاعف بحلول 2021 ويصل إلى 70 %. وقالت الشركة إن استراتيجيتها تستهدف جعل قطاع الطاقة السعودي أكثر نشاطاً وتنافسية من خلال ثلاث ركائز، تتمثل في توطين السلع والخدمات، وتوليد نصف مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة لأبناء الوطن، وزيادة صادرات المملكة من السلع والخدمات المرتبطة بقطاع الطاقة بنسبة 30 %.
والحقيقة، إن من أبرز أسباب تدني مساهمة قطاع الطاقة في التأثير الإيجابي على النشاط الاقتصادي في معظم الدول المصدرة للنفط هو انعزالية قطاع الطاقة عن القطاعات الأخرى في الاقتصاد باعتماده على تأمين احتياجاته على الشركات الأجنبية؛ ما يجعل ارتباطاته الأمامية والخلفية بالقطاعات الأخرى في الاقتصاد محدودة جداً؛ وهو ما يعوق قيام قطاع الطاقة بدور أكثر فاعلية في النشاط الاقتصادي.
لذا نجد النرويج التي هي بلا منازع أفضل بلد في العالم في إدارة قطاع الطاقة وتوظيف إيراداته قد اهتمت بشكل لافت بموضوع دمج قطاع الطاقة بالقطاعات الأخرى منذ بدايات نشاط إنتاج النفط والغاز في النرويج. فكثافة رأس المال والتحديات التكنولوجية الهائلة المرتبطة بعمليات الإنتاج النفطي البحري كانت بكل تأكيد ستدفع الشركات العاملة في إنتاج النفط والغاز إلى عدم الاعتماد على القطاعات النرويجية، والاتجاه للبحث عن حلول لمشكلاتها التقنية، من خلال شركات وخبرات أجنبية ما لم تجبر على ذلك من خلال استراتيجية حكومية واعية تماماً لمثل هذا التحدي، تسعى لبناء قطاعات محلية، تقدم مختلف الخدمات للشركات العاملة في قطاع الطاقة.
وإذ يشكر ويقدر لشركة أرامكو تبنيها مثل هذه المبادرة من ذات نفسها إلا أنه من الأفضل أن يكون ذلك ضمن استراتيجية حكومية، تستهدف جعل قطاع الطاقة بالمملكة بشركاته ونشاطاته كافة أكثر ارتباطاً بقطاعات الاقتصاد الأخرى، ويلعب دوراً رئيساً في تنشيط عمليات التعلم وبناء المعرفة في الاقتصاد المحلي، من خلال وضع وتنفيذ استراتيجية حكومية ملزمة، تستهدف كل ذلك.
ففي النرويج - على سبيل المثال - تخوفت الشركات العالمية العاملة في قطاع النفط من عدم قدرة قطاعات البحث والصناعة والخدمات النرويجية على تقديم حلول مناسبة للتحديات والتعقيدات التكنولوجية التي كانت على يقين من أنها ستواجهها، واعتبرت أن إجبارها من قِبل الحكومة النرويجية على الاعتماد على القطاعات المحلية نوعٌ من الضرائب دون أن تتوقع تحقيق الكثير منها، إلا أن هذه العلاقة تطورت بعد أن أثبتت القطاعات النرويجية أنها قادرة على تقديم خدمات واستشارات مهمة؛ إذ استطاعت أن تطور قدرتها على تقديمها من خلال عمليات التعلم وبناء المعرفة مع مرور الوقت، بحيث أصبحت الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط والغاز تعتمد على القطاعات النرويجية في حل الكثير من المعضلات الفنية التي تواجهها في عمليات التنقيب والإنتاج البحري حتى في خارج النرويج.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية بشكل هائل، ومكّنت النرويج من بناء قاعدة واسعة لقطاعات كثيفة المعرفة، تضم صناعات عالية التقنية، قامت في الأساس بهدف تلبية احتياجات قطاع الموارد في مجالات عديدة، من أبرزها: تقنية المعلومات والاتصالات، المراكز البحثية، دور الاستشارات، الشركات الهندسية وصناعات الآلات والمعدَّات، التي تحولت مع الوقت إلى قطاعات تصدير مهمة للنرويج، بفضل التراكم المعرفي والقدرة على حل المشكلات التقنية المعقدة التي حققتها تلك القطاعات؛ إذ أصبحت خدماتها مطلوبة في دول عديدة حول العالم.
إلا أن من المهم أن تولي شركة أرامكو موضوع توطين الوظائف في الشركات والمؤسسات المحلية التي يتم التعاقد معها أهمية قصوى، وأن يكون منحها لصفة الوطنية مبنياً على صدقية كونها شركات وطنية من خلال نسبة سعودتها الحقيقية ونوعية ومستوى الأعمال التي تقوم بها العمالة المواطنة فيها. فلا تنخدع بنسب السعودة المعتمدة من قِبل وزارة العمل؛ فهي نسب لا تمثل الواقع مطلقاً، وتعكس في الغالب سعودة وهمية غير حقيقية؛ ما يستدعي قيام أرامكو بنفسها بتأهيل الشركات والمؤسسات التي ستتعاقد معها، من خلال تقصٍّ ذاتي مباشر لحقيقة السعودة والمستوى النوعي للأعمال التي تؤديها العمالة المواطنة في تلك الشركات والمؤسسات، ثم متابعة ذلك من خلال حملات تفتيش مفاجئة ودورية، وإلا ستفقد هذه المبادرة الرائعة معظم جدواها، وتصبح نصف المليون وظيفة التي ستخلقها مجرد نصف مليون فرصة عمل إضافية للعمالة الأجنبية لا أكثر.