عبدالعزيز القاضي
يا قارع الدمام سم واقرعه
وأعطيك عذقين ليالي الصرام
- شاعر من الجن
والبيت مطلع قصيدة مشهورة ارتبطت بقصة مثيرة موجزها ما يلي: حكى علي السناني من أهل المجمعة أنه نام في كهف في شعيب المشقر الذي تقع عليه المجمعة، فسمع من الجن هذه القصيدة.
ونسبها الراوية الشهير محمد اليحيى في (لباب الأفكار) لابن لعبون, وروى ابن خميس رحمه الله في الجزء الثالث من كتابه (من القائل) قصة سمعها من المرحوم زبن بن عمير (ت 1395هـ) حدثت له مع الجن وهو مسافر بين القصيم والحفر ذكر فيها أنه سمع هاتفا يترنم بقصيدته التي كان ينظمها في تلك اللحظات ومطلعها:
المرقب اللي صاحبي قد رقى به
حقٍّ على إليا وطيته لأعديه
وزعم كثيرون حكايات لهم مع شعراء من الجن, بل روي عن الشاعر حاسن المطرفي الهذلي من شعراء القرن الرابع عشر الهجري أنه جرت بينه وبين شاعر من الجن محاورة مكتملة الأركان, وهناك قصص أخرى تروي محاورات شعرية مع الجن, وليس بغريب أن يكون مسرح وأبطال تلك المحاورات في الحجاز, ففي الحجاز نشأت المحاورة, ولا يزال شعراؤه بوجه عام هم المقدَّمون في هذا الفن..
حكايات وأخبار بعض شعراء النبط مع الجن ليست سوى امتداد لما ورد في التراث العربي الإسلامي الزاخر بالعديد من الحكايات والأخبار الطريفة والمثيرة في هذا المجال, فقد روي الكثير من هذه الروايات التي تزعم أن لبعض الشعراء علاقة بالجن, بل زعموا أن لكل شاعر شيطانا وقرينا يلهمه ويلقنه الشعر. وقد راجت هذه الفكرة وتشعبت حتى إنهم ذكروا أسماء أولئك الشياطين والقرناء, وكان ذلك يرد في أخبار متناثرة أوردها المؤلفون القدماء كأبي زيد القرشي في (جمهرة أشعار العرب) والجاحظ (في الحيوان) والنويري في (نهاية الأرب) وغيرهم كثيرون, ثم ترسخت الفكرة عندما ألف ابن شهيد الشاعر الأندلسي رسالة (التوابع والزوابع) التي ذكر فيها لقاءاته مع توابع الشعراء وهم القرناء. وقد نسبوا كل إبداع وتفرد يتجاوز المألوف إلى العبقرية نسبة إلى وادي عبقر الذي يمثل عاصمة شعراء الجن.
وهذه القصص والأفكار التي تربط الشعر والشعراء بالجان لم يُسلم بها القدماء ولا المحدثون من ذوي النظر لأنها لا تصمد أمام المحاكمة النقلية والعقلية, وإذا كانت قد راجت فلأنها مثيرة وممتعة فقط, فهي خيال مناسبة يُتم خيال الشعر, وأحاديث الإثارة والخيال الممتع إذا بقيت في فضاء المتعة ولم تشرئب إلى معانقة الحقيقة تبقى مقبولة.
وعودا إلى بيت السياحة أعلاه .. أظن أن القصة المقرونة بالقصيدة ليست سوى دعابة تطورت عبر الزمن فصارت حقيقة عند البعض, فالقصة والقصيدة كلتاهما كما أظن من خيال علي السناني, وقد نسبها البعض فعلا إليه.
وقس على هذا المحاورات المزعومة مع الجن, وللمرحوم عبدالله العلي الدويرج (ت 1365هـ) محاورات كثيرة مع شاعر مجهول اسمه الغرمول, ويؤكد العارفون أن الغرمول هذا ليس سوى شخصية وهمية اخترعها ابن دويرج وأجرى على لسانها تلك الردود, ويبدو أن طموحه في الخيال لم يرتق به إلى زعم أن محاوره من الجن! ويلجأ الشعراء إلى هذا مثل هذا الادعاء والتمويه لأن لديهم ما يريدون قوله, ويلجأون إلى هذا الفن لأنه القالب الذي يجيدونه ويبدعون فيه, والأسلوب الذي يرونه مناسبا لطرح هذه الأفكار.
أما رواية زبن بن عمير فليست مستغربة لأنه لم يزعم أن الجن أوحت إليه القصيدة, بل ذكر أنه سمع من يترنم بها ولا أحد بجواره, وهذا وارد وغير منكور وقد تواترت روايات الثقات عبر العصور على سماع (هواتف الجان) وألفت فيها كتب.
وللحديث بقية