عبدالعزيز السماري
مع انخفاض أسعار النفط بدأت مرحلة تحدي التقاليد والأفكار الجامدة حول مفهوم الدولة في الثقافة العربية الإسلامية، والتي قامت في الماضي على قبضة السلطة والرعايا واقتصاد الفتوحات، وستواجه دول الخليج صعوبات في مرحلة التغيير القادم، فمفهوم الدولة الحديثة نشأ وترعرع في الغرب، ومر في مراحل كان أثرها على استقرار المجتمعات كبيراً..
التحدي في دول الخليج أن تتجاوز المخاطر التي مرت فيها دول الغرب، وتستفيد من التجارب التاريخية في تلك الدول، فالصراع حول مفهوم الدولة يحتاج إلى منهج واضح للجميع، وأن تكون الشفافية عنواناً ومضموناً في مرحلة التطوير..
قام النفط في حياة أغلب دول الخليج بالقيام بدور العائد المجزي من اقتصاد الغزو في القرون الأولى، فلم يعاني المواطن من الضرائب، وتم تطبيق مفاهيم سلفية في توزيع الثروة، وساهمت تلك الحالة إلى حد كبير في عدم استدعاء نظام الدولة الغربي كبديل عن الدولة التقليدية في الشرق.
لذلك تعتبر إثارة قضية تطبيق ضرائب في دول الخليج على المبيعات والأملاك في الوقت الحاضر بداية انقلاب على تاريخ من الإرث الإسلامي الجامد، والذي كان يقوم على رعاية الأمة من خلال نظام العطايا حسب معايير طبقية، وقام النفط بأداء دور المسكن الذي أوقف حركة التقدم والتطوير في مفهوم الدولة الخليجية.
كان غياب اكتشاف فلسفة الدولة في تاريخ المسلمين سبباً لسقوطها المتكرر في الماضي، وكان العامل الأهم في ذلك غياب مفهوم التطوير في نظامها السياسي، وغياب المفكرين السياسيين الذي يقدمون النظريات السياسية التي تُطيل من عمر الدولة، ولنا في تاريخ الاستقرار في بريطانيا والسويد وغيرهما دروس وعبر، فقد ساهمت حنكة السياسي وثراء الفكر السياسي في تجاوز هذه الدول خطر الفوضى والانقلابات العسكرية والشمولية..
كان المفكر الفرنسي (جان جاك روسو) في القرن الثامن عشر الميلادي أول من انتقد فكرة الدولة التقليدية في حفظ ورعاية مصالح الطبقة الغنية في المجتمع فأعلن أن نشوء الدولة في ثوبها القديم هو الذي عكر صفو النظام الاجتماعي، فقد أنشئت لحماية مصالح طبقية من غضب الطبقات الأدنى والأقل دخلاً، فالإنسان يولد حراً، ولكنه يكبل من قبل الدولة بالقيود.
خرجت النظرية التوفيقية بعد ذلك بأن الدولة ضرورية للاجتماع الإنساني؛ ووظيفتها في غاية الأهمية في حفظ النظام الاجتماعي، ورعاية مصالح الأفراد عن طريق القانون، والنظرية الأخيرة قامت على أفكار (توماس هوبس)، الذي آمن بأن الأفراد بدون استثناء يجب أن يقبلوا بالتضحية بحرياتهم مقابل تجنب الفوضى الناتجة عن عدم وجود الدولة، وهذا العقد الاجتماعي بين الدولة والفرد هو الذي يحفظ النظام والحضارة في المجتمع الإنساني.
بعد سقوط ادعاءات الحق الإلهي في الحكم، واجهت الدولة الحديثة في الغرب صعوبات سياسية واجتماعية، كان أشهرها شعار لا ضرائب بدون تمثيل، وهو شعار شاع بين المستوطنين الأمريكان خلال 1750s و1760s وكان واحدا من الأسباب الرئيسية للثورة الأمريكية، ونتج عن ذلك نشوء مفهوم أكثر حداثة للدولة، وخروج الدولة العظمى الولايات المتحدة الأمريكية.
الجدير بالذكر أن دول الخليج اتفقت مؤخرا على القضايا الرئيسة لتطبيق ضريبة القيمة المضافة في المنطقة، لتدنو من فرض ضرائب مباشرة للمرة الأولى على الأفراد، وذكر على هامش مناسبة إعلامية، أن الاتفاق حصل خلال اجتماع لممثلي وزارات خليجية قبل أيام، وذكر الإعلان الخليجي أن فرض ضريبة القيمة المضافة سيكون أحد الإصلاحات الاقتصادية المهمة في دول مجلس التعاون الخليجي حيث الأنظمة الضريبية محدودة للغاية..
لكن ذلك لن يكفي لبدء مرحلة فرض الضرائب على الأفراد، فالقضية تستدعي أكثر من إصلاحات اقتصادية، والإصلاح يجب أن يشمل أكثر من ذلك، ويأتي في مقدمتها الإصلاح السياسي وتطوير أنظمة المشاركة السياسة، وإلغاء الطبقية الاجتماعية والحقوق المكتسبة، وفرض أنظمة تكافوء الفرص بين المواطنين أيا كانت مرجعيتهم وخلفيتهم الاجتماعية..
تحتاج دول الخليج أكثر من أي وقت مضى لوضع إستراتيجيات لحفظ الأمن الاجتماعي المبنية على أسس الحقوق والواجبات، وأحسب أنهم يملكون التجربة السياسية الثرية التي تؤهلهم لتجاوز عقوبات التغيير السريع من إرث تقاليد الدولة الرعوية إلى أساليب الدولة الحديثة، والتي تقوم على الإنتاج وحقوق الأفراد والمشاركة وتكافوء الفرص بين الجميع، والله على ما أقول شهيد.