ميسون أبو بكر
عندما دخلت مبنى التلفزيون في الوشم بعد يومين من حادثة الحريق الذي تزامن مع مؤتمر القمة التي عُقدت بالعاصمة الرياض واجتماع الفرقاء السوريين, تراءت لي تلك الطفلة التي كنتها وقد مررت بطفولتي المبكرة بتجربة مماثلة في منزلنا بمسقط رأسي الكويت, رغم محاولاتي البائسة لحظتها لإبعاد تفاصيل تلك الحادثة عن ذاكرة يغشيها الدخان ورائحة الموت وصوت الأطفال الخائفين الذين كانوا يلوحون لآبائهم في الأسفل بينما هم معلقون بين السماء والأرض حيث صعدنا سطح المنزل حين استعصى خروجنا من المدخل الذي اشتعل عنده صندوق الخشب الذي صُمم ليحتوي مولدات الكهرباء للمبنى.
بقيت حتى اللحظة رهينة تلك الحادثة التي أذكر من تفاصيلها ألسنة اللهب والدخان وصوت انفجارات مولد الكهرباء وصوت أبي الذي كان يأتي واعداً بالمساعدة، حيث اخترق المدخل المختنق بثاني أكسيد الكربون وتسلل لخارج المبنى.
جعلتني تلك الحادثة شديدة الحساسية والتيقظ لرائحة الكهرباء وشديدة الخوف أيضاً من تكرار التجربة التي شهدها زملائي وزميلاتي حيث كنت غادرت مبنى التلفزيون قبل حدوث الحادث بدقائق.
بعد يومين من الحريق عدت وبي لهفة المحب أجسّ نبض المكان وأناجي عظمة البرج المطل على مباني الوزارة التي تسوره, وقفت وبي لوعة وارتياب وحزن وأنا أستعيد السنوات التي عملت بها في المكان الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من فكري وجسدي وتاريخي وحروفي التي كتبت بين صباح ومساء وكرّ ونجاح وقلّما إخفاق.
في لحظات حريق التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي تتلاقف الأخبار والصور, كانت السنوات تتوالى كفيلم سينمائي على شريط الذاكرة.. حكاية البرنامج الأول «الأشرعة» على القناة الإخبارية، وستون دقيقة والمرافئ على القناة الأولى الأم ثم المقهى الثقافي على القناة الثقافية وما بين الجو والبر والبحر مع زملائي الكرام ألف حكاية وحكاية وسوانح الذكريات تتربص بي، والخوف على الزملاء في المبنى الذي تسبب في حرقه تماسٌ كهربائي في الدور الثاني تحت الأرض.
في الوقت الحرج والعالم يتطلع إلى الرياض كمقر للقمة وقِبلة للساسة وطوق نجاة للوضع المتازم طرأت هذه المشكلة التي تصدى لها رجال أشاوس صدقوا الوطن ما عاهدوه عليه من العمل والمثابرة والجد وتحدي الظروف القاهرة، حيث تم البث من مبنى التلفزيون القديم ولم يتنبه المشاهد لأي انقطاع أو خطب.
خانتني العبرات والكلمات أمام الزملاء الذين كانوا في خضمّ الأزمة ولم يتهاونوا لحظة في جدهم وعملهم لإنقاذ الموقف، فربّان القناة السعودية د. محمد باريان خاطر والزملاء معه بأرواحهم لإنقاذ المواد الفلمية المجهزة مسبقاً من الأستديوهات المتضررة والجهود استمرت لتواصل البث إلى العالم الذي كان محوره الرياض تلك اللحظة.
هذه حكايتي مع التلفزيون السعودي الذي له الولاء والانتماء وللزملاء تحية الروح وذكريات تتعملق مع الوقت كذاكرة النخلة بنت الأرض مانحة الثمر تراث المكان.
أدين بالمحبة لهؤلاء الذين أملك معهم شهادة ميلاد مشتركة وهوية وجود، أتنفس من خلال عملنا المشترك، وأتقاسم معهم تفاصيل الحياة التي تنبض في صميم عمل وطني خالص ورسالة جُبت هذا العالم أؤمن بها وأعتنقها.
في الشدائد والصعاب يتجلى الصدق ومعدن البشر، وهذا الجهاز المهم في وطني فيه ألف حكاية وحكاية وفاء، فنحن نشكِّل فيه الجسد الواحد الذي إذا اشتكى فيه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
عشرات الأبطال هم زملائي الذين أفتخر بهم، ومئات الحكايات التي خطّها أبطال أنعشوا أرواحنا بالبهجة وروح الأخوة الحقيقية وليس ذاك المشهد ببعيد حيث رافق رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون د عبد الملك الشلهوب أحد الزملاء إلى المستشفى في سيارة الإسعاف التي نقلته من العمل في حالة طارئة.
سلام عليك يا وطني وسلام إليك وعلى رجال صدقوك العهد والمواطنة الحقيقية.
من آخر البحر..
وهي الرياض
درعية النخل السخيّ
في الوشم لي أنشودة الصبح الشجيّ
فإذا تسلل للطريق ظلامها
في البرج لي وطن بهي
ومرافئ وسوانح
وهواية وغواية
وحكاية القلب الشقيّ