جاسر عبدالعزيز الجاسر
التطور الفكري والإبداع في قيادة الأمم لم يعد خافياً على أحد، فالباحثون رصدوا بكثير من الإمعان ما حققته سنغافورة البلد الذي لا تُقاس مساحته بما يجاوره من دول تفوقه في المساحة والموارد ومع هذا تفوق عليها، أيضاً النموذج الأوروبي - سويسرا - التي رغم وقوعها في قارة قطعت مسافات طويلة من التطور السياسي والفكري، إلا أن سويسرا تميزت وهي التي تقع بين عمالقة أوروبا، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
لا نذهب بعيداً ونحن نجتر خيبتنا عندما نقارن وضع العديد من الدول العربية بما حققه الكيان الإسرائيلي، وما زلنا نتحجج بما يُقدم له من دعم سياسي واقتصادي وعسكري من الغرب، ولم نسأل أنفسنا لماذا لا نحصل على دعم مماثل، ونحن الأكثر موارد والأكبر أسواقاً والأفيد لمصالحهم.
الفارق لكل ما ذكرنا هو الفكر، والإبداع السياسي، والإبداع ليس مقصوراً على القادة، بل يمتد إلى شرائح أخرى من كل فئات المجتمع، بدءاً من رجال الفكر، وهم مجموعة كبيرة من الأكاديميين والمثقفين ورجال الإعلام والعلم إلى أن نصل إلى من هم ما زالوا على مقاعد الدراسة، وهؤلاء ما لم يكن بينهم تناغم وسلاسة في التعامل السليم مع المعلومة وتطويعها لبناء مستقبل أفضل لا يمكن أن نحقق الهدف.
لنحصر نقاشنا في منطقتنا العربية.. لماذا لا نزال متأخرين عن قافلة التطور الذي يسعى العالم أجمع إلى الوصول إليه، بينما نظل نحن العرب نلجأ إلى غيرنا للمساعدة في إعاقة بعضنا البعض، هل الإيرانيون أفضل منا نستعين بهم لتدمير أشقائنا، وهل الأتراك أفضل من الإيرانيين ليتجه لهم بعض العرب، مع أن البوصلة واضحة وهو ضبطها للاتجاه نحو المصلحة العربية العليا.
ولأن البوصلة واضحة، والطريق الموصل إلى التطور والوصول إلى المكانة المطلوبة بين الدول المتقدمة لدى بعض الدول، وللأسف لا تزال دولاً قليلة إذ تُشكّل الأقل من ربع العرب، لكنها خطت لنفسها مساراً واضحاً تسير عليه.
إبداع قياداتها لم يأتِ من فراغ، فالذي يتحقق في هذه الدول مبني على تراكمات فكرية وسلوكية معززة باستقرار سياسي وأمني واقتصادي، هذه الدول ومنها دولتان لا يمكن إغفال ما حققتاه من إنجازات سياسية واقتصادية وحتى أمنية وعسكرية، صُنفت إحداهما على المستوى الدولي بإحدى الدول الناشئة المتقدمة، وهي محطة تأتي بعد محطة الدول المتقدمة والتي لا تتجاوز عشر دول، فبالإضافة إلى الدول الصناعية السبع تُضاف إليها الصين وروسيا والهند، وتكمل بعد عشر دول مجموعة العشرين الأكثر تقدماً بعد الدول الكبرى، دول تُصنّف أكثر تقدماً في مجموعة الدول الناشئة، حتى الآن تتواجد دولة عربية واحدة هي المملكة العربية السعودية التي لم تُضم إلى هذه المجموعة اعتباطاً، فقد جاءت بعد عمل دؤوب وظّف الإبداع السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري، وبانتظار أن تنضم دول عربية أخرى، حيث تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة للحاق بهذا الركب، وهي قادرة لتحقيق هذا المسعى، كونها تعمل بجد وصمت ولا تستهدف مزاحمة الآخرين متقوقعة ضمن قوالب قديمة تجاوزتها الأحداث والمتغيرات ولا تستوعب عمل وإبداع الآخرين الذين اعتبروا حسب مواصفات البعض بأنهم أقل عدداً وأقل مساحة، متناسين أن العمق الإستراتيجي والدول تتفوق وتتطور بمقومات أساسية هي التي تجعل الدول تنمو وتتصاعد أهميتها، وأهمها الانتماء والعمق الأيديولوجي والفكري، وفي منطقتنا الانتماء للدين الإسلامي الصحيح، والعمق القومي العربي الذي لا يمكن إغفالهما، وإذا ما عُزز هذان العاملان الأساسيان بسمو سياسي وتطور اقتصادي واستقرار أمني وقوة عسكرية، فلا بد أن يُحسب حسابٌ لهذه الدولة، وهو ما غفل عنه أو تغافل عنه بعض الكتّاب في بعض الدول العربية، نحن هنا لا نلتفت للذين يكتبون بعيون فارسية أو حتى عثمانية، لكن ما يسؤونا غشاوة عيون عربية لا تزال تتدثّر بجلباب الأنظمة الماضية التي حاولت فرض سيطرتها دون مقومات، ودون إبداع سياسي مفرّغ من أي تطور اقتصادي.