د. عبدالحق عزوزي
ننتمي إلى عالم معولم يتغير بسرعة ونعيش أكثر من أي وقت مضى تحت سقف واحد ونرى شاشة تلفزية متنوعة تنقل إلينا أخباراً متعددة وصوراً متنوعة وتختلف وجهات نظرنا وردات أفعالنا حسب التكوين والبيئة إلى غير ذلك؛
فلم يكن العالم يوما ًقاراً أو ساكناً فانتفض فجأة لا! ولا الكرة الأرضية على ثبات وإذا هي تتحرك فجأة! ولكن العالم يتراءى إلينا وهو يتغير بسرعة كبير وبوتيرة أعمق ولم يستقر على حال يمكن أن يوصف بالديمومة أو الثبات؛ لذا فالحيرة تصيبنا عندما نريد أن نقوم بتحليل لنظام إقليمي أو دولي هما في جوهرهما متغيران وانتقاليان على الدوام ونسعى أن نتوقع نظاماً دولياً أو إقليمياً لهما قدر كافٍ من الاستقرار والثبات؛ ومن هذا نفهم محدودية تلك النظريات في مجال العلاقات الدولية التي تذبل قبل جفاف الحبر الذي كتبت به، والأفكار التي تولد ميتة، والنتيجة أن رؤية المستقبل صعبة جداً وتحديد معالمها أصعب مما يمكن تصوره؛ والعالم أصبح أكثر ضبابية مع انتهاء الحرب الباردة وتقلص الدور الروسي في العالم ونهاية الثنائية القطبية وانتقاله إلى الأحادية الأمريكية حيث القوة الاقتصادية والقوة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية واللغوية والثقافية بدت مجتمعة في كيان واحد ومظلة واحدة تتعدى قوة العديد من الدول مجتمعة بل والعديد من القارات.
وكما سبق وأن كتبت كانت هناك محاولات كثيرة أطلقت في القرن الماضي لتحقيق الاتحاد العربي من أهمها إقامة جامعة الدول العربية، والتوقيع على العديد من الاتفاقيات والشراكات الثنائية ومتعددة الأطراف كاتفاقية منطقة التجارة العربية الحرة وخلق بعض التجمعات دون الإقليمية كاتحاد المغرب العربي؛ ولكن معظم جوانب منظومة العمل العربي المشترك باءت بالفشل الذريع مما يجعلنا نتساءل: هل الأمة العربية لها من الديناميات ما يدفعها إلى تشكيل وحدة إقليمية متماسكة على شاكلة الاتحاد الأوروبي مثلاً؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا خفقت في تحقيق الوحدة؟ بعض المحللين يرجعون مصدر العلة إلى بعض العوامل كالصراع على الزعامة والنفوذ بين القيادات العربية والنخب، والاختلاف في حجم المعطيات الاقتصادية بين الدول العربية، والتباين الكبير في نظم الحكم والإيديولوجيات وتنامي النزاعات الوطنية المرتبطة بالدول القطرية، وأخيراً استمرار التدخل الغربي - الإسرائيلي لاجتثاث بذرة الوحدة العربية الكامنة في تربة الأمة وإخماد شعلتها المتقدة على حياء. إلا أن هذا النوع من التفكير يبدو لنا خاطئاً ولا يسمح لأي حصيف قارئ أن يحقق فيه أي تقدم معرفي، ومن هنا العديد من النظريات التي تذبل قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به. فالتاريخ يُخْتَزَلُ في هاته العوامل وكأنه نتيجة معطيات أُنشئت مسبقاً، ويكفي الباحث تشخيصها لشرحها؛ والصائب أن التاريخ لا يخضع لقواعد العوامل، وإنما هو يندرج في إطار من الديناميكية المستمرة تتعدى العوامل ومكونات المجتمعات المختلفة، وتخلق سيرورة مستدامة تغيّر تلكم العوامل والمكونات بحسب الأزمنة والأمكنة والظروف.
هذا من جانب.. ومن تجليات المشاكل المستعصية في النظام الدولي المعاصر هو أن الكرة الأرضية ليست بخير. هذا الكون الجميل الذي خلقه الله بإبداعه وقدرته وملكوته وجعل فيه كل شيء يمشي بمقدار، أضحى عرضة لأشرس هجوم بشري بصناعاته ولا عقلانيته وشجعه اللا متناهي وأنانيته. العلماء من كل القارات يؤكدون اليوم أن أي زيادة متوقعة على درجتين مئويتين كحد أقصى لارتفاع درجات الحرارة بالكرة الأرضية عن النسبة الأصلية سيهلك الحرث والنسل، وستشكّل كارثة عاتية على البيئة والاقتصاد. فأكبر تهديد خطير قد نتركه للأجيال المقبلة هو التغيير المناخي الذي قد يخلف من ورائه عواصف وعقوداً عجافاً شداداً من الجفاف، وفيضانات وموجات حرارية شديدة وانتشاراً للأوبئة وندرة للمياه مع ما سيتبع كل ذلك من هجرات لا متناهية للبشر.. وتتشكّل ظاهرة الاحتباس الحراري بسبب كثافة الانبعاثات الكربونية في الهواء، التي تؤدي إلى منع وصول الأشعة فوق البنفسجية إلى الفضاء الخارجي مما يسبب ارتفاعاً في درجة الحرارة، لذا يتم الإلحاح على ضرورة تعميم امتلاك التكنولوجيا والطاقات المتجددة لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكاربون.
كثيرون هم الذين تكهنوا بفشل قمة باريس التي اجتمع فيها نحو مائتي زعيم عالمي من 30 نونبر إلى 11 دجنبر 2015 على شاكلة قمة كيوتو 1997 وكوبنهاغن 2009، ولكن المفاجأة الكبرى هي هذا الشعور العالمي بالمسؤولية تجاه كوكبنا الذي تمخض عنه مصادقة الدول على اتفاقية عالمية للحد من التغيير المناخي. والذي حضر القمة الواعدة، رغم أنها كانت مباشرة مع أحداث باريس الإرهابية والدامية، يندهش للعمل الدبلوماسي والمسؤول الذي قامت به منظمات دولية وجمعيات لا حكومية ودول وأفراد ذوو النفوذ أتوا ليقولوا للجميع إنكم في موعد لا يغتفر مع التاريخ، ولا يمكن للأجيال المقبلة أن تنساه لكم إذا أنتم لم تأخذوا قرارات شجاعة وحاسمة.
الجشع والربح السريع، يجعل الدول لا تبحث إلا عن الإنتاجية والمردودية السريعة بأي ثمن. وإذا رأيتم المنتوجات الصينية توجد في كل أنحاء المعمور، يمكنك أن تفهم لماذا هاته الدولة لوحدها هي مسؤولة عن ربع الانبعاثات الكربونية في العالم بنسبة 25.3 في المائة، وإذا وجدت أن المنتوجات الأمريكية هي أيضاً متواجدة في السوق العالمية فلا عجب إذا علمت أنها مسؤولة بـ14.3 في المائة، ولا عجب أيضاً أن الدولتين معاً لم توقّعا على اتفاقية كوبنهاغن لـ 2009.
التعهدات التي خرجت منها قمة باريس يجب أن تكون ملزمة في نظام عالمي يعرف احتباساً سياسياً واحتباساً إستراتيجياً لا ينظر بنظارات مصلحة الأجيال ولكن بنظارات المصالح الضيقة والآنية. القليل منا نحن المدرسين في الجامعات في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية من ينتبه إلى أنه من الآثار السلبية للديمقراطية، هو الجشع والخوف السياسي اللا محدود عند المنتخبين. فأقصى ما يمكن أن يعمره منتخب في المجتمعات الديمقراطية هو أربع أو خمس سنوات، ولا يأخذ إلا القرارات التي ستبقيه هو وحزبه أو تحالفه في كرسي الحكم لولاية ثانية. ففرض قيود على شركات أو منع أخرى من التواجد لعدم تماشيها مع قوانين المناخ الإيجابية مكلف سياسياً ومرهق سياسياً واقتصادياً، ناهيك عن آثار قرارات مثل تلك المتعلقة بعدم اعتماد الاقتصادات الوطنية على الوقود الأحفوري في إنتاج الطاقات. فصاحب القرار المنتخب ينظر إلى ما تحت حشائش أي قرار قد تفقده أصوات اللوبيات الصناعية العملاقة والمؤثرة.. ولكن في المقابل نستبشر خيراً، عندما نرى علوماً جديدة تطرق باب العلوم السياسية من زاوية الديمقراطية التشاركية مقابل الديمقراطية التمثيلية.. فالأولى تشرك المواطن العادي في شكل من أشكال التدبير المشترك للشأن العام المحلي، انطلاقاً من تقوية مشاركة السكان في اتخاذ القرارات السياسية والتنموية بأنفسهم وفي النقاش العمومي، وهذا النوع هو نوع من دمقرطة الديمقراطية التمثيلية التي وباسم التفويض الكلي والشرعية الانتخابية التي تتمتع بها تقلص من مجال رأي المواطن العادي لبعد المنتخب عنه وتواجده بعيداً عن الجهة التي صوتت عليه، خصوصاً عندما يكون في عاصمة البلد وبالضبط في قبة البرلمان حيث يقضي الأوقات في اللجان البرلمانية وفي صياغة القوانين ومراقبة عمل الحكومة والقيام بعمل المعارضة أو مزاولة الحكم.. المواطن العادي بدأ يحس بالغبن وبدوره الموسمي (عملية التصويت والانتخاب) وبدأ يتلذذ بالديمقراطية التشاركية التي تجعله فاعلاً دائماً له الحق في الإخبار والاستشارة والتتبع والتقييم بل وأخذ القرار.. رأينا قوة هاته الديمقراطية التشاركية عالمياً وبالضبط في قمة باريس، ويجب أن تقوم الآن بدورها محلياً لإعطاء ضمانات معنوية وانتخابية لأصحاب الحكم ولأن الخطر ثلاثي الأبعاد عالمي ووطني ومحلي كما أن الوعي اليوم يجب أن يكون ثلاثي الأبعاد.. والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة لا تصيبفقط رؤساء الدول والمنظمات العالمية، وإنما عندما تهب فإنها تأتي على الأخضر واليابس.