حمّاد السالمي
* رحمة الله عليك يا دكتور غازي القصيبي. نجحت في استدراج قرائك وقارئاتك لقراءة مقالك المعنون: (امنعوا هذا الكتاب الخَطِر)..! والمنشور في منتصف العام 2009م.
* كنت وقتها من قراء المقال المستدرَجين، وسعيت جهدي لمقاربة ورقية مع الكتاب الخَطِر:
(إصلاح التعليم في السعودية؛ بين غياب الرؤية السياسية، وتوجس الثقافة الدينية، وعجز الإدارة التربوية). الكتاب الذي ألّفه الدكتور (أحمد بن محمد العيسى)، وزير التعليم المعيّن حديثاً. فشلت كل محاولاتي حتى اليوم، وظلت المقاربة الوحيدة هي مع مقال (أبي يارا) غفر الله له.
* لماذا أعود إلى مقال الدكتور القصيبي.. الشاعر الوزير السفير الأديب..؟ ثم أستدرجكم إليه أيها القراء والقارئات مرة أخرى بطريقتي المتواضعة: (لا تمنعوا هذا الكتاب الخَطِر)، وليس بطريقة القصيبي الباذخة الذكاء: (امنعوا هذا الكتاب الخطر)..؟!
* بكل اختصار وشفافية ووضوح أقول: لأن صاحب الكتاب المثير في طرحه وشرحه ومعالجته لقضية التعليم في بلادنا - التي هي أم القضايا، لدرجة أن وزارة التعليم تعاقبَ عليها في عام واحد أربعة وزراء - هو الدكتور أحمد العيسى الوزير؛ وهو اليوم وجهاً لوجه مع أحمد العيسى المؤلف..! الأفكار والرؤى التي تضمّنها كتاب العيسى هي اليوم على المحك، وإلى أن أحقق رغبتي في مقاربة ورقية مع الكتاب، فإني لن أجد أفضل من الأديب المفكر الذي قرأه ودرسه ومحّصه قبل ستة أعوام؛ ثم فكك شفراته في إيجاز بليغ، وفي مقال بحجم الكتاب والكاتب معًا. إنه الدكتور غازي القصيبي؛ الذي أُصِر على أن تشاركوني متعة قراءته من جديد في الأسطر الموجزة التالية: قال أبو يارا تغمد الله روحه الجنة: (أعتبر هذا الكتاب الصغير؛ أهم كتاب صدر في الشأن العام خلال العقدين الأخيرين. تجيء خطورة الكتاب - وخطره! - من أنه يتعلق بأكثر القضايا خطراً في مجتمعنا، وفي كل مجتمع. ينعقد الإجماع بين الباحثين التنمويين على أن التعليم هو مفتاح التنمية، وبالتالي مفتاح أي تقدم يمكن أن يطمح إليه شعب من الشعوب. وتؤكد الشواهد التاريخية أنه لم تتحقق نهضة في أي دولة إلا وكان منطلقها النظام التعليمي.
* ولو استعرضنا المشاكل الكبرى التي يعاني منها المجتمع السعودي اليوم، الفقر والبطالة وضعف الإنتاجية وترهل الأداء في القطاعين العام والخاص، لوجدناها تنبع مباشرة من النظام التعليمي، ويستحيل حلها دون إصلاحات حقيقية في هذا النظام.
* على أن قضية التعليم، بالإضافة إلى خطرها البالغ؛ بالغة الحساسية، يصعب إن لم يستحل، فصل النظام التعليمي عن البيئة التي يولد ويتنفس فيها: من العسير تصور نظام تعليمي يطور المهارات الصناعية في مجتمع زراعي بدائي، ومن المستحيل أن يستطيع مجتمع تملأ عقوله الخرافات؛ إبداع نظام تعليمي معاصر يشجع العلم وينبذ الخرافة، هذا الارتباط الوثيق بين النظام التعليمي وبعض القيم السائدة في المجتمع؛ هو الذي يخلق في كثير من الأذهان؛ الانطباع أن أي محاولة لتغيير نظام التعليم هي عدوان على ثوابت المجتمع، وهذا الارتباط هو الذي يشكّل الفارق الهائل بين إعادة هيكلة قطاع الكهرباء أو النقل أو الصحة وإعادة هيكلة التعليم.
* على أن حساسية القضية يجب ألا تمنع الباحثين الراغبين في الإصلاح من ارتياد الطريق المفروش بالأشواك، هذا ما فعله مؤلف الكتاب، بموضوعية صارمة، ومنهجية راقية، وأسلوب معقم، الأمر الذي جعل كتابه مختلفاً، شكلاً ومضموناً وغاية، عن الكتابات المؤدلجة التي تحمل دفاعاً أعمى عن كل ما هو قائم، وما يقابلها من كتابات مؤدلجة تريد تغييراً أعمى لكل ما هو قائم.
* أدرك المؤلف أن التغيير المطلوب لا يجيء من مواقف متشنجة مبنية على عواطف هوجاء؛ بل يأتي من التحليل المنصف، الواعي بالأهداف المنشودة من التغيير، وبالعقبات التي تقف في وجه التغيير.
* يعزو المؤلف فشل المحاولات الجادة التي استهدفت إصلاح نظام التعليم في الماضي إلى عوامل ثلاثة، العامل الأول: هو غياب رؤية سياسية تبلور إستراتيجية وطنية واضحة للنظام التعليمي. يقول المؤلف: في ظل عدم وضوح الرؤية السياسية التي تتبناها القيادة العليا في موضوع الإصلاح، وفي ظل مناخ التّأزم الثقافي السائد في الساحة الفكرية التي تسودها الاتهامات المتبادلة بين تيارات الفكر؛ تصبح أعمال تلك اللجان «المكلفة بالإصلاح»؛ مجرد ساحة للصراع الفكري الخفي، حتى يصل أعضاء تلك اللجان - جميعهم - إلى طريق مسدود. «ص 80 «. على هذه الصخرة؛ تحطمت نوايا طيبة كثيرة!
* ويرى المؤلف: أن سبب الفشل الثاني هو توجس الثقافة الدينية من محاولات التغيير. أدى هذا التوجس إلى: تشكيل «لوبيات» ضغط كبيرة وهائلة ضد عملية «إصلاح التعليم» والقائمين عليها والمنادين بها، سواء كانوا من المسؤولين في مؤسسات الدولة أو من المفكرين والكُتّاب.. إن هذا يؤدي في أحيان كثيرة إلى تردد القيادة العليا في حسم قرارات تطوير التعليم، كما يؤدي في أحيان أخرى إلى إفراغ مشاريع «إصلاح التعليم» من مضمونها الحقيقي «ص82»، وعلى هذه الصخرة الثانية؛ تبعثرت جهود مخلصة كثيرة!
* ويرى المؤلف: أن السبب الثالث في الفشل؛ يعود إلى عجز الإدارة المركزية عن إحداث التغيير المطلوب: في ظل نظام متشبع بالمركزية إلى حد متناهٍ في أجهزة الدولة ومؤسساتها كلها، فإن الجهاز المركزي لوزارة التربية والتعليم؛ يبقى هو الأكثر مركزية وبيروقراطية، والأقل قدرة على الحركة والتفاعل مع مشاريع «التطوير» وذلك بسبب ضخامته وتعدد مستويات القرار الإداري فيه، وتشعب اهتماماته. «ص 95». وعلى هذه الصخرة الثالثة؛ تمزقت طموحات عدد من الوزراء المتحمسين!). انتهى كلام القصيبي بتصرف غير مخل.
* انتهى كلام وزير مخطط ومفكر قبل ستة أعوام، لكن لم يمت الكتاب الخطر، ولم ينته محتواه وطروحاته العلمية التي تعالج أهم قضية تواجه حياتنا التي نسعى إلى أن تنسجم مع روح العصر، وأن نبدو أكثر تصالحًا مع ذواتنا، وأكثر قبولًا لغيرنا، وأكثر إيجابية مع ما نملكه من مقومات ثقافية واقتصادية، لكي نكسب الزمان؛ فنسهم في بناء الإنسان والمكان، ولكي نحصل على مخرجات تربوية وتعليمة قادرة على الإنتاج والعمل وتحريك عجلة التنمية التي نريد.
* هذا هو مجمل القول لوزير التربية الجديد، الذي ندعو الله له بالتوفيق، وأن ينجح في التغلب على كافة الممانعات والمماحكات التي تنتظره، والتي كبّلت مسيرة التعليم في بلادنا، وأجهضت خطط التطوير، وأفشلت إستراتيجيات التغيير على مدى عدة عقود فارطة.
* إن النجاح الأهم لوزير التعليم اليوم؛ هو في التحدي، وفي تحقيق ما كان في حكم المستحيل. إن الطريق إلى التغلب على العجز الإداري، وتجاوز التوجس الثقافي الديني، وتحقيق رؤية سياسية بناءة في العملية التعليمية؛ مليء بالصخور، ومفروش بالأشواك. صنّاع النجاح؛ لا تصدهم صخور صادة، ولا توقفهم أشواك حادة.