محمد جمعة عبدالهادي موسى
لم تكن الكتابة مجهولة لدى العرب في جاهليتهم فهم قد سجلوا بها عهودهم ومواثيقهم ومواعظهم وآثارهم، وكانت كتاباتهم حفرًا في الصخور ونقشًا على الحجارة والبنيان والأبواب. وعلى رغم قلة النقوش والآثار الكتابية التي كُتبت بحروف عربية أو قريبة من الصور العربية، إلا أن ما عُثر عليه من النقوش النبطية في شمالي الحجاز، وعلى طول القوافل التجارية إلى دمشق، مثل نقش «أم الجمل» الذي يرجع تاريخه إلى حوالي سنة 270م، ونقش «النمارا» الذي يرجع تاريخه إلى حوالي سنة 328م، ونقوش عربية مثل نقش «زيد» المؤرخ بسنة 512م، ونقش «حرّان النجا» المؤرخ بسنة 568م.
وتمثّل هذه النقوش جميعها مراحل تطور الخط النبطي الآرامي إلى الصورة العربية، وتقطع بأن الخط العربي الذي كُتب به القرآن الكريم، قد تولد عن الخط النبطي، وهي في الوقت نفسه دلالة واضحة على أن الكتابة قد وجدت في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام،، وإن ظل استعمالها قاصراً على نطاق ضيق لا يتعداه إلى مختلف شؤون الحياة التي كان يحياها القوم.
وليست الأمة العربية في ذلك بدعـًا من الأمم، ففي العالم القديم عرف القدماء المصريون الكتابة قبل الميلاد بما يقرب من ثلاثة آلاف عام، وعرفها الحيثيون في آسيا الصغرى، والكنعانيون في سوريا منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وكذلك وجدت الكتابة في جزيرة كريت اليونانية منذ ما يقرب سنة 2000 ق.م، كما أكدته لنا الكشوف العلمية الحديثة، ولقد عرف الشعب اليوناني الكتابة واستعمالها منذ أيام الشاعر هوميروس شاعر الإلياذة والأوديسا، وأن هذه المعرفة بلغت ذروتها على يد الكاتب صفوكليس، وبوربيدس، وهيردوت.
ولقد وجدت الكتابة وتواجد الكتاب في شبه جزيرة العرب قبل الإسلام ومرت الكتابة عندهم، ومرت بتطورات كثيرة، كان آخرها التحول من الصورة النبطية إلى الصورة العربية خلال القرن الخامس الميلادي، ولكنها على الرغم من ذلك، كانت وقفاً على فئة قليلة من الناس لم تكن تستعمل إلا في أضيق الحدود ربما لأنهم أمه أمية تعيش حياة بدوية بسيطة لا تحس فيها بحاجة إلى الكتابة في تصريف أمورها وربما كان ذلك لتعذر أدوات الكتابة ووسائلها في ذلك الحين، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن العرب قد عرفوا الكتابة واستعملوها في داخليتهم بدليل ما عثر عليه المنقبون في صحرائهم من نقوش وحفريات، ترجع إلى ذلك الزمن البعيد وما حفظه لنا التاريخ من أشعار شعرائهم، التي يشبهون فيها الأطلال ورسوم الديار بالكتابة ونقوشها.
وهنالك أخبار كثيرة متواترة عن قوما كانوا يعرفون الكتابة الجاهلية فالمؤرخ البلاذري يذكر بأن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلهم يكتب، وكذلك ذكر الواقدي أن الإسلام جاء وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون وقد أحصاهم فبلغوا أحد عشر رجلاً على رأسهم سعد بن عبادة، والمنذر بن عمر، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وتجمع كتب السيرة النبوية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل فداء أسرى قريش في غزوة بدر أن يُعلِّم الواحد منهم عشرة من صبيان المسلمين في المدينة القراءة والكتابة ممن لا يستطيع دفع الفدية. ويثبت القرآن الكريم نفسه للعرب معرفتهم بالكتابة قبل الإسلام في أكثر من موضع، من ذلك:
فورد في سورة الفرقان، الآية: 5 قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، ويحدثنا القرآن الكريم بأن العرب، وهم بصدد إنكارهم رسالة الإسلام، قد طالبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن ينزل عليهم كتاباً من السماء يقرؤونه، وورد ذلك في سورة (الإسراء، الآيات: 90: 93) قوله تعالى : {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (91) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (92) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (93) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}.
ويرد القرآن الكريم على دعوى المنكرين، ويطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا سبيل للإيمان إلى قلوب هؤلاء المنكرين حتى لو أنزل عليهم الكتاب الذي يطلبونه في قوله تعالى في سورة الأنعام، الآية 7: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
ويعود القرآن الكريم للرد على هؤلاء الجاحدين فيقول في موضع آخر من نفس السورة {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} الأنعام، الآية: 91.
وفي هذه الآية دليل واضح على أن عرب الجاهلية كانت لديهم نصوص من التوارة مكتوبة في صحف وقراطيس، هذا ولم يرد عن عرب الجاهلية أنهم كتبوا أشعارهم وسجلوها في دواوين وإنما كانت الرواية الشفوية هي الوسيلة الوحيدة لحفظ الشعر عندهم ونقله عبر المكان من قبيلة إلى قبيلة وعبر الزمان من جيل إلى جيل، ولم تبطل تلك الوسيلة بظهور الإسلام، وإنما ظلت تقوم بدورها ما يقرب من قرنين من الزمان.
وأكبر الظن أن العرب لم يكن قد وجدت لديهم في هذا العصر الجاهلي نصوص جمع بعضها إلى بعض على هيئة الكتب غير النصوص الدينية بدليل أننا وجدنا لفظ «الكتاب» يتردد كثيراً في القرآن الكريم معرفة أحياناً، ونكرة أحياناً أخرى، وهو في تينك الحالتين لا يخرج في مدلوله عن كتب الدين.. ومما ورد في ذلك:
- {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} البقرة، الآية 2
- {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} الأنعام، الآية 92
- {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل، الآية 89
- {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد} إبراهيم، الآية 1
- {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فصلت، الآية 3
ففي هذه الآيات وفي كثير من غيرها يدل لفظ كتاب في حالتي التعريف والتنكير على القرآن الكريم نفسه يرد اللفظ ليدل على كتاب سماوي غير القرآن الكريم، فالمسيح عليه السلام.
- {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} سورة مريم:، الآية: 30
- {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} سورة الأحقاف، الآية: 12
- {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} الجاثية، الآية: 16
- {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِيوَكِيلًا} الإسراء، الآية 2.
ولم تقتصر دلالة اللفظ على التوراة والإنجيل فحسب وإنما تعدتهما إلى كتب سماوية أخرى، منها:
- {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} النساء، الآية 54.
- {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} مريم، الآية 12
وربما اتسع مدلول اللفظ ليشمل كتب الديانات السماوية جميعاً كما نرى في قوله تعالى:
-{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الأنعام، الآية 114
- {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} الشورى، الآية 15.
وقد اجتمع تخصيص اللفظ وتعميمه في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} المائدة، الآية 48. فهنا يرد لفظ الكتاب مرتين الأولى بمعنى القرآن الكريم، والثانية بمعنى الكتب السماوية التي سبقته على الإطلاق.
والنتيجة التي نخرج بها ومن غيرها من آي الذكر الحكيم، التي ورد فيها لفظ الكتاب هي أن اللفظ لم يكن يعني غير الكتب السماوية، والتي تحمل رسالة الله إلى البشر، وأن العرب لم يعرفوا من قبل كتباً تعالج أمراً من أمور الدنيا، ولعل هذا هو ما يفسر لنا إطلاق تعبير (أهل الكتاب) على أصحاب الديانات السماوية التي سبقت الإسلام، أو كما يقول أستاذنا العزيز الدكتور عطية القوصي أستاذ التاريخ الإسلامي جامعة القاهرة.
** **
-باحث ماجستير، كلية الآداب، جامعة القاهرة