محمد الشهري
** قد يجد المرء صعوبة كبيرة في اكتشاف مكامن الظواهر السلبية أو المرفوضة الناتجة بالتبعية عن تدني مستوى الوعي في معظم المجتمعات، باستثناء مجتمعاتنا العربية على وجه العموم، والسعودية على وجه الخصوص، وتحديداً المجتمع (الكروي)، لاحظ أنني قلت: (الكروي) ولم أقل : الرياضي، باعتبار الرياضة بريئة تماماً مما يُقترف باسمها من (معايب) تدور رحاها فقط في إطار كرة القدم، براءة الذئب من دم يوسف، هذا عدا أن كرة القدم ما هي إلاّ واحدة من مئات الألعاب الأخرى، ومع ذلك ظلت تستحوذ على كامل النصيب والنصاب من ناتج تدني مستوى الوعي وتداعياته وعواقبه؟!.
** ولأننا بارعون في صناعة الرموز (المزيفة) كبراعتنا في توفير المناخ للنطيحة والمتردية لتصدّر المشهد، وقيادة الصفوف على مدى عقود، دون أن نقيم وزناً لما لهكذا (عبث) من تبعات على المدى البعيد، لأننا انشغلنا بالتصفيق لهم وتصنيف رمزياتهم وممارساتهم وترسيخها في الأذهان حتى تحولت مع مرور الوقت إلى تراث؟!
** الكثير، والكثير من الممارسات التي تم تمريرها والتغاضي عنها بدلاً من التوقف عندها ومنع تناميها وانتشارها درءاً لعواقبها، هي من (فرّخت) هذا الجيل (المتوتّر)، المتأزم، المحتقن الذي لا يؤمن بحق الطرف الآخر في الكسب، وإن حدث ذلك فالويل والثبور؟!!.
** هذا الجيل -المغلوب على أمره- الذي وجد نفسه أسير بيئة تصدّر له ثقافة ابتكرتها عقول مفلسة من قيم الرياضة وأخلاقياتها إلى درجة اعتبار الخسارة في كرة القدم (وصمة عار)؟!!.
** هذا الشعور (الوباء) بوقع الخسارة، هو بلا شك كفيل بخروج الأمور عن نطاقات التعاطي الطبيعي مع المكاسب والخسائر أسوة بسائر المجتمعات الكروية الأخرى، إلى حالة من الاحتقان والشحناء والرغبة المنفلتة بالانتقام.. ليس هذا فحسب، وإنما الذهاب إلى أبعد من ذلك من خلال (معايرة) الفرق الخاسرة بأقذع العبارات، والحطّ من قدر الكيانات، هذا على الرغم من أن لبعض الخسائر أسبابها ومسبباتها الخارجة عن شروط ومعايير التنافس الشريف، كما حدث للهلال أمام الفريق الاسترالي سيدني، حيث انهالت الشماتات والمعايرة بالخسارة، رغم اقتناع أصحابها بأن من فرض ذلك المشهد الفاسد، ليس الطرف المنافس، وإنما هو القاضي (الفاسد)؟!!.
** من هذا يتضح أننا قد أسرفنا كثيراً في مسألة ترك (الدرعا ترعى) إلى أن بلغت الأمور ما بلغته من ثقافات وتعقيدات أفضت وستفضي إلى المزيد من أسباب تحويل مسارات قيم وأهداف التنافسات الكروية عن طبيعتها ووجهاتها المفترضة؟!.
** نعم: فعندما تتسع رقعة تدنّي مستوى الوعي على أوسع نطاق، وعندما تتنامى وتتزايد أعداد الجهلاء والسفهاء، وبالتالي يصبح بمقدورهم فرض قناعاتهم وثقافتهم وسلوكياتهم على المشهد العام، هنا يجب ألاّ نسرف في لومهم كما أسرفنا في منحهم سُبل الوصول إلى هذا المستوى من الفكر ومن ثم فرضه كأمر واقع، بل علينا أن نلوم أنفسنا؟!.
** صحيح أن اسمها لعبة (كرة القدم) ولكن الصحيح أيضاً أن عشاقها ومريديها بالملايين، وأن هؤلاء الملايين لا يعيشون في كوكب آخر، أو أنهم يعيشون في معزل عن باقي شرائح المجتمع، بل على العكس، فهم أكثرية المجتمع، ما يعني أن أي انحراف -لا قدر الله- قد يكتنف فكر أو سلوك هذه الأعداد الكبيرة من المجتمع، لا بد أن يسري تلقائياً على البقية بحكم الاندماج.
** أنا لا أحلم بمدينة (أفلاطون)، ولا أحلم بمجتمع كروي ملائكي، ولكنني أحلم بمجتمع كروي يتعاطى مع الكرة ونتائج تنافساتها وفق أعرافها ونواميسها الطبيعية، لا وفق نفسيات الجهلاء والسفهاء وأصحاب الأجندات التي لا علاقة لها بكرة القدم وأغراضها النبيلة، أولئك الذين دلفوا إلى الساحة بقصد تحقيق أهداف غير نبيلة وغير شريفة.
** أحلم بمجتمع رياضي لا يتعاطى مع خسارة المنافس على أنها وصمة عار، مجتمع يباهي برفع شعار (نحن عقلاء) بدلاً من التباهي برفع شعار(نحن مجانين).