د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
نقلت جريدة (الحياة) في عددها الصادر في 3-3-1437هـ تصريحاً لمعالي وزير الصحة تضمّن الإشارة إلى (أن وزارة الصحة تسعى لتقوية جودة الخدمات الصحية من طريق استراتيجية أشمل للقطاع الصحي) و(أن الهدف الذي تسعى إليه من خلال الاستراتيجية المتبعة أن توفّر جميع الأجهزة
والكوادر ما يجعلها تستغني عن نقل المرضى السعوديين إلى الخارج للعلاج). وأريد تركيب معادلة تربط نقطتين بارزتين في هذا التصريح، هي:
(استراتيجية تشمل القطاع الصحي لتقوية الجودة ----) الاستغناء عن علاج المرضى بالخارج).
هذه المعادلة تعكس اتجاهين إيجابيين في أسلوب معالجة قضايا النظام الصحيّ بأكمله.
الاتجاه الأول: السعي لتقوية الجودة في ظلّ استراتيجية شاملة للقطاع الصحي - وليست خاصة بوزارة الصحة وحدها. وهو اتجاه يتناغم مع الاستراتيجية العامة للرعاية الصحية بالمملكة (صدرت في عام 1430هـ) التي تضمّنت أسساً وسياسات تشمل تطوير القطاع الصحي - العام والخاص - ورسمت خطوطاً عريضةً لكلّ جهة صحية في الدور الذي تقوم به، ونظّمت أسلوب الإحالة وتدفق المعلومات فيما بينها، واقترحت وسائل التمويل والإدارة وتقويم الأداء وأُسُس توزيع الخدمات الصحية. وغنيٌ عن البيان أنه تحت مظلّة هذه الاستراتيجية الشاملة للقطاع الصحي فإن الخلل في أي قطاع منفرد أو أيٍّ من مستويات الرعاية الصحية سيؤثّر على كفاية وجودة الرعاية الصحية للمواطن. وذلك يستدعي بذل جهود منظمة ومنسقة وفعّالة للرقيّ بمستويات الرعاية الصحية في كافة القطاعات. فإذا كان معالي الوزير - كما يُفهم من تصريحه - سيحوّل استراتيجية تقوية الجودة الشاملة للقطاع الصحيّ بأكمله إلى برنامج عمل - وليس مجرد هدف عام - فذلك هو الاتجاه الصحيح الذي لا نملك إلا دعوة معاليه للإسراع بالسير فيه؛ لا سيّما أن المجلس الصحي السعودي قطع أشواطاً في التمهيد له بوضع خطة لتنفيذ برامج الاستراتيجية الصحية في المملكة. هذا الاتجاه سيقود جميع القطاعات الصحية إلى تقديم مستويات جيدة من الرعاية الصحية ضمن شبكة نظام صحيّ مترابط خاضع لنفس معايير الجودة وقياس الأداء.
الاتجاه الثاني: تحديد هدف معيّن واضح وهام بدون عموميّة ولبس، وهو الاستغناء عن نقل المرضى السعوديين للعلاج في الخارج، ممّا يعني الاكتفاء الذاتي التام بخدمات صحية متقدمة تلغي الحاجة لعلاجهم خارج المملكة. والوسيلة لذلك هي- كما أوضح التصريح - توفير جميع الأجهزة والكوادر، بحيث لا يكون المهم كثرة المباني، وإنما تطوير وتحسين أداء ما فيها من أجهزة وكوادر ورفعها إلى أعلى المستويات. أهمية هذا الهدف هي أنه مؤشر يعكس صورة التقدم الحاصل في الخدمات الصحية، ولكنه بالطبع لا يغني عن المؤشرات الصحية الأخرى. كتاب النظام الصحي السعودي (صدر في 1430هـ) أورد مؤشراً لعدم الثقة بالخدمات الصحية طلبات العلاج في الخارج المرفوعة للمقام السامي، حيث بلغت قرارات العلاج المبنية عليها في عام 1426هـ 78% من (914) قرار أصدرتها الهيئة الطبية العام. لكن الكتاب استثنى أمراض العيون، فإنه منذ إنشاء مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون عام 1404هـ لم يرسل أحد لعلاجها بالخارج. هذا المستشفى توافرت به كل الإمكانيات المتقدمة من الأجهزة والأطباء لعلاج كل أنواع الحالات، إلى جانب تخريج أطباء استشاريين في طب العيون. وتركيز الكفاءات الطبية والخبرة المتفوقة والتجهيزات الحديثة في المستشفى جعله مرجعياً تعليمياً عالي المستوى يغني عن العلاج في الخارج. إن سعي الوزير لتوفير أجهزة وكوادر بشرية بأعلى مستوى - وليس لبناء المستشفيات - هو مؤشر على النظر الاستراتيجي السليم الذي يرى أن أولوية الاهتمام والتطوير يجب أن تبدأ من القاعدة التي تهمّ المواطن، أي من نوعية الخدمة الطبية في المراكز الصحية والمستشفيات، بما في ذلك الخدمة التخصصية الدقيقة التي تغني عن علاج المرضى في الخارج، وفي ضوء ذلك توضع التنظيمات المركزية وليس العكس. والأمثلة الناجحة التي نشهدها في طب العيون أو جراحة فصل التوائم أو القلب المفتوح أو زراعة الأعضاء تؤكّد بما فيه الكفاية على ضرورة توفير الأجهزة والعدد الكافي من كوادر عالية المهارة في المستشفيات التي تقدّم الخدمات التخصصية الدقيقة، وعدم تبديدها بين عدة مستشفيات بدون مسوغ من كثافة سكانية وبدون تقدير لصعوبة توفيرها لكونها غالباً نادرة ومكلفة. ما نصنعه الآن هو السير في الاتجاه المعاكس - كما نراه في بعض المدن الكبيرة والمتوسطة، ولكن بالأخص المدن التي تنشأ فيها مستشفيات تابعة لأكثر من جهة - وزارة الصحة وكلية الطب مثلا- وبسعة سريرية تفوق ثلاثمائة سرير وبها تجهيزات وتخصصات دقيقة. وقد ذكرت نموذجين لذلك في مقال سابق (الجزيرة في 13-1-1437هـ) - وهما بالتحديد في المجمعة وسكاكا - ولكن الكاتب المعروف الأستاذ علي الموسى أضاف نموذجاً صارخاً لذلك (جريدة الوطن 12-12-2015) يتمثّل في إنشاء مستشفىً تابع لكلية الطب في أبها (800 سرير) وعلى بعد ثلاثة كيلومترات تنشئ وزارة الصحة مدينة طبية (1000سرير). اللهم لا حسد ! لكن هذه الازدواجية في إنشاء مستشفيات تخصصية لا تنفع الرعاية الطبية التي ينشدها المواطن وتغنيه عن طلب العلاج في الخارج، لأن فيها تبديداً للقدرات الطبية وتشتيتاً للحالات المرضية - كما أشرت آنفاً؛ هذا بالإضافة إلى هدر الإنفاق وصعوبة توفير العدد الكافي من ذوي التخصصات الدقيقة لكل مستشفى، الذين قد يتسرّب بعضهم حفاظاً على خبرتهم، وتضجّراً من قلّة الحالات أو شغل الدوام بحالات يكفيها المستشفى العام. إن تركيز الكفاءات البشرية العلمية الطبية النادرة، وتركيز إحالة الحالات الصعبة والمعقدة يؤدّي إلى تراكم الخبرات العملية وزيادة المعرفة، وانتقال ذلك كله من جيل إلى جيل، ممّا يجعل المستشفى ليس مرجعياً فقط. ولكن أيضاً تعليمياً مُؤهَّلاً لممارسة التعليم والتدريب الطبي والبحث العلمي - سواءً كان تابعاً لكلية الطب أو تابعاً لوزارة الصحة أو غيرها، ومتعاون مع كلية للطب. ومن المعروف أن المستشفيات التعليمية في معظم دول العالم هي التي تقود التطوّر الطبي وتخرّج الكفاءات الطبية وتدرّب المهنيين في أقسامها المتخصصة. إن مستشفى تعليمياً واحداً -مع وجود مستشفى عام يلبّي حاجة السكان للحالات العادية- أجدى لهم من مستشفيين تخصّصيين يعاني كل منهما نقصاً مزمناً في المتخصصين، ومن ثَمّ تقصيراً في العناية الطبية؛ وكذلك أجدى للدولة من ازدواجية تستنزف الأموال. ومن البديهي أن استقطاب ذوي الكفاءات العليا واستبقائهم في مثل هذا المستشفى التعليمي يتطلب بيئة عمل ومزايا جذابة ومحفّزة، لا يوجد معها مبرّرُ للتبرّم والبحث عن مزايا أو ارتباطات عمل أخرى.