د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لا جديد في القول إن العقل المفكر المبدع لا ينتج فكراً ولا إبداعاً إذا كانت تكبّله القيود فلا يتحرك، أو تحيط به الأسوار من كل جانب فلا ينطلق في أفق التفكير والخيال الواسع، فهو كالطير المحبوس في قفص أو داخل شبك، لا يعيش ولا يغرّد إلا بالطيران في الفضاء الواسع،
وعندما تنطلق الطيور في الفضاء فإنها لا تحوم بلا هدف، بل (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، وتعود لصغارها بالغذاء. والوعي الحضاري الذي يميّز المجتمعات المتحضرة هو نتاج عقول وهبها الله القدرة على الفهم والاستيعاب والعزيمة ثم العمل والإبداع. وهذا ينطبق على المجتمعات الإسلامية - ومجتمعنا واحد منها - منذ عصر النبوّة. لكن العالم الإسلامي لم يحافظ على وهج الحضارة الإسلامية كما أشارت لذلك الكاتبة الأديبة الأستاذة أميمة الخميس في مقالها الذي نشرته جريدة (الرياض) بتاريخ 13 محرم 1437هـ، وتطرقت فيه إلى (رسائل إخوان الصفا) التي أخفى فيها مؤلفوها أسماءهم كيلا يتعرضوا للأذى بتهمة الزندقة التي كانت شائعة في العصر العباسي تجاه الأفكار الخارجة عن السياق المذهبي العام- وخاصة علوم الكلام والفلسفة والكيمياء - وصفتهم الكاتبة الكريمة بأنهم (نتاج العقل الإسلامي وأنهم جماعة ومضت ثم خبت، ليعود العالم الإسلامي يسأل عن ثقافة العقل...أين عقلى؟). وسأشارك هنا في البحث عن هذا العقل لعلى أعثر عليه. لقد انتشر دين الإسلام وتقبلته الشعوب التي وصلت إليها دعوته من غرب الصين إلى غرب إفريقيا، لأنه يحرّرهم من عبودية الأوثان والرموز إلى عبادة خالقهم الواحد الأحد، ومن ظلام الخرافات وعمى الغرائز إلى نور الإيمان والعقل حتى تبيّن لهم الرشد من الغيّ. وقد اجتهد العلماء الأفذاذ من أصحاب رسول الله والتابعين الذين حباهم الله بالجمع بين الإيمان القويّ والعقول النيّرة في شرح معاني النصوص التي أخذوها من مصادرها الأصلية في كتاب الله وسنّة رسوله، وما لم يرد به نص صريح استعانوا بالعقل في توضيحه من خلال فهم مقاصد الشريعة وقواعد القياس والمصالح المرسلة. وتأسّس المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة المتينة من عهد النبوّة إلى العصر الذهبي من الدولة العباسية؛ ذلك العصر الذي جمع فيه الإسلام بين أمم ذات لغات وثقافات مختلفة، ونتج عن اختلاطها امتزاج الثقافات، وتفتّحت العقول لمعرفة علوم الآخرين من الهند والصين والفرس والإغريق وغيرها، فعرفتها بالترجمة والتدريس، ونشأت أجيال من علماء المجتمع العباسي والأندلسي أبدعوا وطوّروا بعلمهم وأبحاثهم نهضة فكرية وعلمية إسلامية. لكن تأثير تلك الثقافات - وخاصة في النواحى العقائدية - ودخول العناصر الفارسية والتركية والموالي إلى مراكز السلطة والنفوذ، وظهور فرق ومذاهب ابتعدت عن المذاهب السلفية السائدة، وعلماء جموا بين علوم الدين والفلسفة والعلوم الطبيعية، كل ذلك جعل أئمّة المذاهب السلفية يقرّرون قفل باب الاجتهاد ويرمون كل من خرج عن جادّة تلك المذاهب بالزندقة، وقد يحرّض بعض أتباعهم السلاطين والعامّة على مطاردتهم. وظلّ علماء المذاهب السنية يشتغلون بعلوم الدين واللغة على منهج النقل المتواتر، وأعرضوا عن المنهج العقلي، ونظروا إلى الاستعانة بالعقل في تأويل وشرح النصوص الشرعية نظرة شكٍّ وريبة (مثل ابن تيمية الذي كان لا يثق - خاصة - بالعقل المجرد، ويرى أنه لا يمكن أن يكون حاكماً على النص الشرعي من الكتاب والسنّة الصحيحة، بل هو محكوم منهما - عن كتاب «ابن تيمية» للشيخ محمد أبو زهرة). وكان ضحية تجميد الاجتهاد وتهم الزندقة العلوم العقلية كالفلسفة والطبيعيات. وخلا الجوّ للخرافات والطقوس التي يبثها بين العامة مشعوذون وينشرها في الكتب أئمّة فرق ومذاهب منحرفة. أما ما أنتجه العقل الإسلامي من علوم فقد تسرّب إلى أوروبا من خلال الحروب الصليبية والتبادل التجاري والاحتكاك المباشر في الأندلس. وبعد انهيار الدولة العباسية والحكم العربي في الأندلس انطفأ نور الحضارة الإسلامية في العلوم والفلسفة، وبدلاً عن ذلك (سطعت شمس الله على الغرب) - كما في العبارة التي عنونت بها المستشرقة الألمانية (زيجريد هونكة) كتابها المشهور. ودخل العالم الإسلامي في سبات طويل عميق لم توقظه منه دولة الخلافة العثمانية التي لم تكن تولى العلوم الطبيعية والعقلية واللغة العربية اهتماماً كاهتمامها بالغزو وشؤون السلطة. وعندما أفاق العالم الإسلامي على وقع أقدام أمم الغرب المستعمرة وجد نفسه خاضعاً لغرباء في الثقافة واللغة، لا يملك مثل ما لديهم من علوم الحضارة الفكرية والمادية التي انقطع عنها منذ مئات السنين. وقد ترتّب على هذا الانقطاع نشوء فجوة هائلة بين واقع العالم الإسلامي وعلوم الحضارة الحديثة المادّية والفكرية لا تزال غير منغلقة إلا بقدر يسير. فالغرب (المتحضّر) لم يأت للشرق معلّماً بل استعمر شعوبه لاستخراج ما عندها من المواد الخام اللازمة لصناعته أو من المحاصيل الزراعية أو لإيجاد أسواق لمنتجاته أو لاستخدام موانئها لسفنه. وتحوّرت هذه الفجوة إلى انفصام حضاري بين الشرق (الإسلامي) الذي تمسّك بعقيدته وثقافته الإسلامية وأبقى علماؤه على اجتهاد أسلافهم في ما نقلوه من التراث عنهم، وبين الغرب الذي ترتبط حضارته المادية والعلمية في أذهان المسلين بالفكر الفلسفي وعلوم الطبيعة التي سبق أن وصمها أئمّة المذاهب في أواخر العصر العباسي بالزندقة وحاربوا علماءها المسلمين - لا سيّما أن هذه الحضارة الحديثة تصل إليهم مع خصم تاريخي وحاكم مستعمر ومنطوقة مكتوبة بلغته ومنسوجة في ثقافته. هذا الانفصام الحضاري شكَّل في تفكير العالم الإسلامي ثنائيّة خطيرة - نلمس آثارها عن قرب - ما بين إلمامنا الواسع بعلوم الدين واللغة والتاريخ التي استوعبناها في تراثنا اللغوي والثقافي؛ وبين ما نراه في مقابل ذلك لدى الغرب من فكر الحضارة الحديثة وعلومها التي أخذ نظريُاتها وأسُسها الأوّلية من ما أنتجته الحضارة الإسلامية، واستخدم العقل والبحث العلمي في تطويرها وصُنعها. وخطر هذه الثنائية يتمثّل في أنها أعاقت الأخذ بمنهج الفكر وتوليد المبادرات الفكرية والعلمية لأنها صنعت قفصاً من ثلاثة جوانب تحبس فيه العقل الإسلامي:
... يتبع