د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الأمر الذي لم يختلف عليه علماء اللغة وفقهاؤها هو أن للغة نظاماً لغوياً يمكّنها من التوسط في التواصل بين الناطقين بها، غير أن هذا النظام لا يتطابق دائماً مع مقاصد التداول. وهناك ثلاثة مفاهيم أساسية متداولة، أدبيات اللغة وأبحاثها: اللغة كطبيعة بشرية، واللغة بمفهومها المتداول، واللغة كقواعد. الأولى محل البحث
اللساني، والثانية مجال الدراسات المختلفة التي تُعنى بلغة ما بعينها بما فيه جوانب التواصل بها، والثالثة مجال دراسات النحو. وما زال كنه اللغة مستعصياً على الدراسات اللسانية رغم غزارة علومها وتقدم أبحاثها؛ وما زلنا لا نحيط علماً بهذه الظاهرة المجردة التي نسميها «لغة» لأننا لا نستطيع تجاهل اختلاف لهجاتها ولهيجاتها؛ وما زال الجدل محتدماً أيضًا حول قواعد اللغة ونحوها، وعلى أية لهجة أو قياس تنحى قواعد هذا العلم. وبالنسبة لنا كمسلمين فنحن نرى أن اللسان الذي نزل به القرآن هو الأصح والأكمل، نرى ذلك عقيدةً وبلا جدلٍ. واللغة العربية بتاريخها العريق ولهجاتها واختلاف شعوبها، يمكن أن تكون موضوع بحث لأي من المجالات البحثية الآنفة الذكر. فهي محيط من المعارف والمقاربات الممتعة، ولكنها كأداة تواصل لسان كسائر الألسن الأخرى. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: لا يحيط بكلام العربي إلا نبي.
والفصل بين اللغة كنظام واللغة كأداة تواصل هو فصل بين المجال الثالث والثاني، وهو من بديهات البحث اللغوي. لكننا في بعض الأحيان وللأسف نخلط بينهما لا سيما في مراحل تعليم اللغة العربية في مدارسنا حيث نركز على الجانب االنحوي بشكل أكبر من الجانب التواصلي. وهذا إشكال موجود أيضاً في دراسات اللسانيات حيث تُعنى اللسانيات بالمعنى اللغوي بشكل أكبر من الجانب التواصلي. فالسياقات النصية الحقيقية للغة لا تقل أهمية عن قواعدها النحوية والإعرابية. وفهم مبادئ تيسير التواصل مرحلة أكثر التصاقاً بواقع اللغة من فهم قواعدها مجردةً. ويتوهم البعض أحيانا أن التغير اللغوي يطال الجانب التواصلي ويقصر دون القواعد النحوية لأنه ظاهر وسريع في الأولى وباطن وبطيء في الثاني.
وربما أصاب تاريخ دراسات اللغة العربية كنظام ما أصاب وجوه التراث الأخرى من المبالغة والتضخيم. فلا يمكن أن نتخيل مجتمعاً ما تكلم فيه الناس كافة كسيبويه أو الكسائي أو الأصمعي، ولا يعقل أن تكون اللغة العربية مرت بعصور تكلف فيها متكلموها في تواصلهم بالكم الهائل من القواعد النحوية التي تزخر بها كتب النحو. وتاريخ النحو زاخر بالمسائل الجدلية والطرائف التي اختصم حولها النحاة أنفسهم، فسيبيويه مات وفي نفسه شيء من حتى، وأوصى الحسن بن صافي أن تقبر بعض مسائل النحو معه في قبره ليحلها عند ربه. وقد روى السيوطي أن الكسائي قد مات وهو لا يعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، وأن الخليل لم يكن يحسن النداء. وأن سيبويه لم يكن يدري حد التعجب! (محمد متولي). ولا يقلل هذا مطلقاً من أهمية دراسات النحو فهي رائعة في كثير من جوانبها وعميقه جداً في بعض طروحاتها.
وحقَّ الإفراطُ في الكلف اللغوي لأسلافنا حيث كان طبيعياً في وقت كانت فيه اللغة العربية اللغة الأولى في العالم، أي مايشبه lingua franca في أدبيات اللسانيات الاجتماعية الحديثة، فهي كانت كالإنجليزية اليوم تَكْتبُ بها أقوام مختلفة، وتُكْتَبُ بها العلوم كافة. لكنها وللأسف لم تعد اليوم كذلك، ولم يعد واقعنا اللغوي مركزياً لنتمترس حوله ونخاف عليه، وبدأت لغات أجنبية تنافس لغتنا في عقر دارها، ليس لعور فيها ولكن بسبب ما ينطق به حال أهلها؛ فنحن أحوج اليوم ما نكون للمشتغلين بعلوم اللغة العربية لإعادتها، لا نقول لبريق ماضيها، ولكن لإعادتها محببة لنفوس المتكلمين بها كيلا يمعنوا في هجرها. وقد تكلم بعض علماء اللغة من السلف والخلف حول ضرورة عدم الاستمرار في تنفير الناس من اللغة بالتقعر في النحو والقواعد والاكتفاء بما ييسر التواصل بينهم. فالقواعد على أهميتها ليست تراثاً مقدساً تجب المحافظة عليه بأي ثمن.
والعالم اليوم يتغير بإيقاع سرعته لم نشهدها من قبل، وتجد فيه علوم لا قبل لنا بمتابعتها، وتتوسع فيه العلوم التي عهدناها بما يصعّب اللحاق بمستجداتها. ولذا فلعلنا ننظر في الاعتناء بلغتنا، آخر متاريس هويتنا، لتكون أداة تواصل فعالة وقادرة على المنافسة حتى ولو كان ثمن ذلك التضحية ببعض المسائل النظامية فيها، ذلك ما أدركنا أنها تتغير وستستمر في التغير شئنا أم أبينا. فمما يؤسف له هجر كثير من أبنائنا لغتهم، واشتراط بعض مدرائنا إجادة اللغة الإنجليزية عليهم للحصول على وظيفة يسترزقون منها، بل إن بعض المشتغلين بالنحو أنفسهم حرص على ابتعاث أبنائه للتعلم بلغات أجنبية.
اللغة بلا شك وعاء المعرفة وأداتها الأساسية، وهي مرآة تنعكس فيها نواحي الثقافة المختلفة لآداب وعلوم الأمة سواء كان ذلك إبداعاً أم قصوراً. وافتقار اللغة العربية لبعض أوجه الكتابة التقنية والعلمية (والأدبية) إنما يعكس التخلف والقصور في الواقع العلمي الحقيقي للأمة العربية أيضاً. فليس من الجائز أن نلوم لغتنا وحدها ولا نلوم أنفسنا في التفريط فيها. فتعاملنا مع لغتنا وانشغالنا بها كوسيلة تواصل هو ما يحدد مكانتها وقدرتها على المنافسة وليس المسائل والعلل والأقيسة النحوية. ولعل دراسات اللسانيات الاجتماعية تسعفنا في سبر أغوار صورة اللغة العربية في أذهان شبابنا، فاللسانيات بما هي علم جامع للغات قد تكون حكماً محايداً في هذا المقام. ونظام اللغة مهما خلناه جامداً هو في حالة تغير مستمر لأن اللغة كائن حي تتغير بتغير المؤثرات حولها؛ لكن نظامها تغيره بطيئ غير ملحوظ كتغير أساليب وسياقات التواصل التي تتجاذبه. وربما استفدنا من مراجعة بعض ما يرد في كتب الأخطاء اللغوية الشائعة لتحليله والاستفادة منه لسبر هذا التغير. وقد قيل في الأثر: خطأ مأثور خير من صواب مهجور. فلا مناص من تقليص الفجوة بين ما يستخدمه الطالب في تواصله خارج المدرسة وبين ما يتعلمه معيارياً في داخالها على أنه الصحيح من قواعد اللغة.
وهذا يجب ألا يقودنا إلى التوهم بأن إشكال التنمية العلمية والتقنية في المجتمعات العربية هو إشكال لغوي فحسب، متجاوزين بذلك الواقع العلمي الحقيقي للمجتمعات العربية. فهناك علاقة جدلية أزلية بين اللغة والتنمية الحقيقة؛ وتنمية اللغة ضرورة لا مخرج منها للوصول إلى لغة تنمية صحيحة وواقعية. والتنمية بدون مواكبة اللغة للتطور تفاقم ما نحن فيه من ازدواجية لغوية تنموية بدأ البعض في تقبلها على أنها قدر واقع تقتصر فيه اللغة العربية على مجالات الأدب والشعر وتحتكر فيه اللغات الوافدة مواضيع العلوم والتقنية. ومن أبرز سمات المجتمعات الراكدة التأكيد على الماضي والتردد والحيرة أمام المستقبل وهذا ينطبق على اللغة أيضا.
ولعل لنا في قضية التعريب مثل شاخص، وهي قضية قومية وطنية من الأهمية بأنها ربطت بالنهضة السياسية العربية. وكان الهدف الأساس منها حل هذا الإشكال التنموي في بدايات التحرر من الاستعمارين التركي والغربي وبزوغ بوادر النهضة العربية في أوائل هذا القرن. فالمادة الحادية عشرة من المعاهدة الثقافية التي صادق عليها مجلس جامعة الدول العربية في عام 1954 تنص على ضرورة توحيد المصطلحات العلمية العربية، وقرار تأسيس مكتب تنسيق للتعريب في الرباط اتخذ عام 1961م وإلحاقه رسمياً بجامعة الدول العربية كان في عام 1969م. ولعل من الجائز التساؤل لماذا راوحت قضية التعريب مكانها لهذا الردح الطويل من الزمن بالرغم من الزخم الأدبي والإيديولوجي والسياسي الهائل الذي حظيت وما زالت تحظى به؟ فهل يجدر بنا الانطلاق من مبادارات تعريب وتعليم جديدة تعكس المنظومة التي اتبعناها سابقا والمتبعة حالياً بحيث نركز على التواصل بالقدر نفسه الذي نوليه للقواعد، ونبسط قواعد لغتنا بشكل يوافق واقعها التواصلي الحالي لا واقع أسلافها؟