د.فوزية أبو خالد
وعدت في مقال الأسبوع الماضي بأنه ستكون لي عودة للحديث عن موضوع لقاء مشروع التحوُّل الوطني بعد أن تناولت في ذلك المقال سبع نقاط اعتبرتها من الأساسيات النقدية التي لا بد من وضعها في الاعتبار إن كنا نريد أن ننظر لمشروع التحول الوطني كمشروع تجديدي جاد وجذري،
ولا نريد أن نكتفي بتناوله كحدث إعلامي من خلال لقاء ورشة العمل لبرنامج التحول الوطني الواقع بالعاصمة في الشهر الأخير من نهاية العام 2015م. وربما يقتضي مقال اليوم ذكر أهم ما جاء في مقال الأسبوع الماضي، وإن على شكل نقاط موجزة ولا يأتي فعل ذلك من باب التذكير بذلك المقال بقدر ما هو من باب البناء على تلك النقاط والانطلاق منها لتجاوزها.
نقاط تأسيسية
في المقال السابق عملت على تقديم رأي لم يطلبه أحدٌ، ولكنه جاء من باب الإحساس بواجب الموطنة في المشاركة والتجاوب مع أي مبادرة تطوير وطني تتيحه القيادة، كما جاء أيضاً من باب الشعور بالحق في أن يكون لكل مواطن تمثيلٌ، ولو بالرأي في أي محاولة جادة تهدف إلى التقدم الوطني.
تناولت أهمية مبادرة برنامج التحول الوطني في هذا التوقيت بين حربين، وفي لحظة تراجع مردود الدخل الريعي وانحسار الطفرة النفطية الثانية مع ما قد ينتج عنها من ارتباك في إيقاع التنمية، بجانب تراجع الوطن العربي وتفكك عراه وتحديات الهيمنة الإقليمي والدول.. وأوضحت كيف أن هذا التوقيت يجعل من الضروري تعميم العلم بهذه المبادرة لا التعتيم عليها.
تحدثت عن الأمل بأن تقود المبادرة بمزيد من العدل والتعدد وتوسيع التمثيل الوطني في صياغتها وتنفيذها إلى تعميق وشائج الوحدة الوطنية وإلى إصلاح جذري في البنى العميقة المعيقة لعملية التحول الوطني السلمي والتضافري.
نقاط استئنافية
رغم أن لدي شأناً خاصاً يشغلني بعمق هذه الفترة في رحلة خارج المملكة، إلا أن حالي على اختلاف الشاغل كانت تشبه ذلك التوهج الشعري القائل:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
فلم أستطع أن أكف طوال الأسبوع المنصرم عن متابعة ما يجري على أرض الوطن بدءاً من جرح مستشفى جيزان الحارق إلى ما كُتب عن مبادرة التحول الوطني من مقالات قليلة وأخبار أقل.. وربما ذلك الشح في الحديث عن مبادرة التحوُّل الوطني على ما يشتم من طموحها التجديدي أو على افتراضه يُشكِّل مدخلاً استئنافياً لننوِّه بضرورة وجود نوع من إضاءة هذه المبادرة على الأقل بإعلان بعض خطوطها العريضة وأهدافها لئلا يخبو وهجها قبل أن يجري استيعابها، وبدون أن تتحوّل إلى حال تعبوية تجعل الجميع مستعداً للمساهمة فيها ولبذل كل ما يمكن لإنجاحها.
فبقدر ما أقلقني ذلك الصمت الذي رانَ على من حضروا ورشة عمل التحول الوطني، فلم نسمع منهم على الأقل حسب ملاحقتي الورقية والإلكترونية والمكتوبة والمرئية إلا أقل القليل بقدر ما قدرت ذلك الاستثناء الذي طرحه الناقد الإعلامي إن صح التعبير علي العلياني في برنامجه المبصر يا هلا، حيث أتاح لمحة ليرى المواطن عينة من الحضور الذين دعوا من قبل القيادة للاطلاع على برنامج التحول الوطني، وكان منهم وجه مطمئن تمثَّل في طلة خاطفة لأحمد الشقيري وفي كلمة دلالية معبرة عن استيعاب لطبيعة المسؤولية، حيث قيل أن أحد معاني هذه الدعوة هي الاستيعاب الرسمي بأنه لم يعد من المجدي في المرحلة الراهنة من عمر المجتمعات المعاصرة أن تضطلع الحكومات وحدها بالشأن العام بل بالشراكة المجتمعية وبين المجتمع والدولة.
وبقدر ما كان ملفتاً صمت معظم الأصوات التي حضرت ورشة العمل لبرنامج التحول الوطني وكان عدد منهم من أصحاب الأقلام، بقدر ما قدّرت تلك الاجتهادات التي حاولت أن تتلمّس مثل ما فعلت الأسبوع الماضي ومثل ما أفعل الآن بعضاً من بصيص الأمل في مشروع يحمل مثل هذا المسمى الموحي بالمسؤولية «مشروع التحول الوطني» لتكتب كلمة حق ونقد ولتطرح كتابة تنحاز لقلق الأسئلة على راحة المسلّمات كما تتحمّل شجاعة المصارحة على الاكتفاء بسهولة الاستحسان.
وعلى هذا النهج جاءت عدة مقالات لم يكن أصحابها على ما يبدو ضمن حضور ورشة عمل ذلك اللقاء بشخصهم، ولكنهم كمعتاد أقلامهم من ذوي الحضور الضميري الدائم.
كتب محمد الرطيان فشف وأصدق وحدد عدداً من النقاط التي تُعتبر حجر أساس لأي محاولة جادة لا تريد إلا إصلاحاً وتجديداً مخلصاً ينقل البلاد من العلاقات الرعوية بين حاكم ومحكوم لعلاقات الشراكة التعاقدية بين الدولة والمجتمع، ومن تلك النقاط الأساسية التي وردت في مقال الرطيان ما نجده في الفقرة التالية:
«الفكرة رائعة - يا سمو الأمير - وطموحة والأعمال العظيمة تبدأ بأحلام عظيمة، وإصرار وعزيمة لا يهابان الفشل..
ولكن الذهاب إلى المستقبل يجب أن يتم بكامل الحمولة وبكافة التجهيزات اللازمة للرحلة الطويلة والصعبة، فالسيارة القوية الفخمة اللامعة لا يمكنها - على سبيل المثال - أن تكمل الرحلة بإطارات مهترئة!
لو كنت بينكم - يا سمو الأمير - لقلت لكم إن (برنامج التحول الوطني) يحتاج إلى قواعد صلبة تُبنى عليها أحلامنا.. وهي:
- إرساء دولة المؤسسات والقانون.
- إصدار قوانين تحمي الناس جميعاً من أي إساءة أياً كان شكلها ومصدرها.
- منحنا الإحساس بـ»المواطنة» الواحدة أياً كانت لهجاتنا ومذاهبنا وألواننا ومناطقنا.
- تعزيز ثقافة حقوق الإنسان وجعلها - هي والمواطنة - جزءاً مهماً في مناهجنا التربوية والتعليمية.
- منح كافة المنابر الإعلامية - أياً كان توجهها والتيار الذي تنتمي إليه - المساحة الآمنة للتعبير عن رأيها تجاه أي قضية.
- منح المواطن حقه بالعلاج والتعليم والسكن وإيجاد العمل.. ليشعر أن له كرامة تحفظها الدولة وتصونها.
- إعلان حرب حقيقية ضد كل أشكال الفساد لا تستثني أي فاسد مهما كان اللقب الذي يسبق اسمه وأياً كان اسمه الأخير.
وبخصوص الفساد - على سبيل المثال - عندما يكون لدينا هيئات ومؤسسات وأجهزة حكومية تحمل أسماء: هيئة مكافحة الفساد، وهيئة الرقابة والتحقيق، وديوان المراقبة العامة، والمباحث الإدارية، وهيئة التحقيق والادعاء العام.. وجميعها تدور أعمالها ومهامها حول «الفساد» واكتشاف أسبابه والتحقيق حوله ومقاومته ومحاولة القضاء عليه... ومع هذا: نرى السيّد «الفساد» يتجوّل في شوارعنا بكامل عافيته وعنفوانه.. علينا أن نعترف أن الخلل عظيم، والعلاج يحتاج إلى علاج!
- لا يمكنك الذهاب إلى المستقبل دون معالجة أخطاء الماضي.
وسيارة «المستقبل» لا تحتمل أن يكون أحد ركابها «الفساد»... هذا سيجعلها تنقلب عند أول منعطف»
أما عبد العزيز الخضر فتناول موضوع لقاء ورشة العمل لبرنامج التحول الوطني بنفس المبضع الذي كتب به على ما يبدو كتابه السعودية سيرة دولة ومجتمع.. وهو مبضع يتوغل عميقاً في الحالة، فيكشف ويشخّص ويحدد مواقع الخلل ومسؤولية الأطراف دون أن يجرح.. وهو نهج نادر من مناهج النقد التي لا تتجنب المصادمة تفادياً للصراع أو للمصادرة، بل تفعل ذلك عن محاولة فهم شفيفة لمنطق كل من الخلل ومنطق التصحيح حيث لا يمكن اجتراح التصحيح بدون تفكيك الخلل.. ومن هنا فقد كانت الإضافة المحددة التي قدمها طرح الخضر في تناوله لموضوع التحول الوطني هي تلك اللقطة التي تميز طرحه عادة بزاوية مختلفة في النظر التحليلي فقال في ذلك:
«مع نهاية العام نظمت أمانة مجلس الاقتصاد والتنمية ورشة «برنامج التحول الوطني» ليعرض 14 وزيراً ومسؤولاً حكومياً الخطط الخمسية لوزاراتهم، وركّز النقاش كما نشر على ثلاث نقاط تبدو رئيسة: هي المجتمع، والأجهزة الحكومية والقطاع الخاص.. وإذا كان مجالا القطاع الخاص والمجتمع.. يتأثران بالقرارات والتوجه الرسمي، فإن أداء الأجهزة الحكومية محكوم بإطار إداري وبيروقراطي محدد، يصعب أن تؤثر فيه القرارات والمتابعة المباشرة بسهولة.
كثير من النقد الذي يُوجه لأداء الأجهزة الحكومية في الصحافة والمجتمع وأحاديثه ناتجة عن أخطاء في تصور كيف تعمل الإدارة الحكومية، والمسار الإداري لكل قضية متراكمة.. ولهذا يبدو نقد الفساد عشوائياًً. هناك فارق شديد بين من يفهم الخطأ أو الفساد في الإدارة الحكومية الناتج عن عيوب في النظام البيروقراطي أو عن عيوب في الأشخاص.
لهذا يخلط الكثيرون بين نوعية الأخطاء في أي جهاز حكومي، فيلجأ مباشرة لهجاء الموظف الكبير أو الصغير، لأنه لا يفهم الواقع الإداري كيف يتحرك، وعدم تصور كيف يسير العمل الحكومي بما فيهم كثير من المنظرين إعلامياً عن الفساد وأخطاء الدوائر الحكومية».
وإذا كان قينان الغامدي قد رأى في برنامج التحول الوطني بصمة خاصة بعهد الملك سلمان في محاولة نقل البلاد من واقع الاستهلاك لواقع منتج، فقد رأى عيسى الحليان ضرورة التعاضد الإصلاحي بين الهياكل التنظيمية وبين الأداء، وأشار إلى ذلك التلازم بين تعدد مصادر الدخل وبين الخروج من عنق زجاجة النفط بمدّها وجزرها الحديين.
وفي الخلاصة أن تشخيص الواقع بعض من تصور حلول المستقبل وأي تحول وطني جذري لن يكون إلا نوعاً من الأحلام الوردية التي قد لا تتحوّل إلى خطط عمل إستراتيجي إلا إذا كان كل من الدولة والمجتمع يداً بيد على استعداد للتحول من حالة الدولة الريعية إلى حالة الدولة المنتجة، وكذلك على استعداد للخروج على القيم الأبوية والعلاقات الرعوية واستبدالها بقيم الندية وبعلاقات التكافؤ والمساواة والشراكات بين الرسمي والأهلي.. وهذا التحول لا يتطلب فقط قرارات سياسية، بل يتطلب إرادة عمل ورؤية وطنية مشتركة ترى حقيقة ضرورة ومصلحة في التحول الوطني.