د. عبدالحق عزوزي
التطور عملية ممكنة ودائمة وهي سنّة الله فوق الأرض منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وتكون نتائجها قابلة للتنبؤ في الكثير من الأحيان؛ فالبقاء في عالم مُعولم هو القدرة على التكيُّف مع الظروف المتغيرة
والمتقلبة ونفس الشيء في المجال السياسي فالبقاء لمن يستطيع أن يتكيف مع التغيرات والتطورات السريعة. وإلا لماذا انهارت الاشتراكية مثلاً؟ لأنها لم تستطع التكيف مع المرحلة المعاصرة للثورة العلمية والثقافية؛ وتفاقم هذا الوضع بفعل عدة ظواهر وعمليات أخرى بما فيها حالات العجز الكبيرة في حجم العرض، بالإضافة إلى عوامل ذات طبيعة سياسية أو دولية.... ثم لماذا انهارت أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية عبر التاريخ؟ لأنها لم تستطع التكيف مع متطلبات عصر تغير فيه كل شيء، كما تجاهلت قواعد السياسة وطبائع الأجيال والموجودات وأهملت تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الإعصار ومرور الأيام؛ وهاته المسألة كما يقول ابن خلدون (داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال؛ وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده...)..
إن السنة التي ودّعناها، كانت ولا تزال حافلة بالعديد من الأحداث اللا متناهية الأبعاد في أمتنا العربية، سواء داخلياً في كل قطر أو جهوياً أو دولياً. والاستحضار النقدي للأحداث يدفع للتذكر، والتذكر يثير المشاعر، ويدفع بالضرورة نحو المشاعر الوجدانية، ولكنها عند المختص في العلوم الإنسانية كالعلوم السياسية والعلاقات الدولية تدفع به إلى استخراج الدروس والعبر، بعيداً عن لغة الأرقام، ولغة التقارير لأنها في بعض الأحيان اختزال للفكر وابتذال للمعرفة:
- التحول سنة من سنن الكون الدائمة، وفي مجال النظم السياسية وبناء الدول، هي مسألة في غاية الخطورة والحساسية، لأن تطبيق الأدوات السياسية خارج منظومة معرفية سياسية متكاملة، باسم الشرعية والثقة التي تجمع الحاكم بالمحكوم، سيحكم عليها بالنقص بل بالخراب والانهيار والزوال، وليبيا أفضل مثال على ذلك؛ فكلنا نتذكر اليوم الذي قتل فيه معمر القذافي، وما تلا ذلك من تحاليل مبشرة حتى في أكبر المراجع والمراكز البحثية الدولية، إذ صفقت لما وقع ولما سيتولد عن هذا التغيير من أزهار للحرية المفقودة منذ عقود وللديمقراطية المحجوزة منذ القدم، ولكن هيهات هيهات في مجتمع مزقته أفكار سلطوية بائدة، وشرخته غياب نخب محورية يجتمع عليها الثقلان، أن يتولد من رحم المخاض الشعبي مجتمع سياسي موحد قادر على أن يقود سفينة التسيير والتمثيل الشعبي؛ فكانت الكارثة ولا تزال... وأملنا معقود في اتفاق الصخيرات الأخير لاستتباب الأمن والأمان والحرية والسلام بين أبناء البلد الواحد.
- نوعية النظام الدولي الجديد وطريقة تسييره، وكيفية صياغة إستراتيجية المصالح الوطنية والخارجية للدول الكبرى وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية، وتغيرها الدائم بتغير الرؤساء والحكومات المتتالية، والأخطاء المزرية التي اقترفها المحافظون الجدد في منطقة الشرق الأوسط وبالضبط في العراق، وكيف جبرت الأخطاء الجسيمة (كإشعال وقود الطائفية) وعولجت بأدوية متناهية الصلاحية بل ومسمومة، مكّن كل ذلك من توسيع دائرة الإرهاب متعدد الانتماءات، ومكّنه لأول مرة من التوفر على أراضٍ شاسعة، وعلى موارد مباشرة وضخمة، وعلى أبناك وعلى كل مقومات الإرهاب الذكي، وعلى أتباع ومريدين من كل القارات، وأصبحت قدرته على ضرب المصالح الدولية من ضرب الحقيقة والممكن... فلسنا في حرب كلاسيكية نستعين في تحليلها بنظريات كلازفيتز، حيث يتصارع المتبارزون في حلبة صراع ظاهرة للعيان، فيكفي اليوم أن تأتي الأوامر عبر الإنترنت من منطقة الشام إلى قلب باريس أو بروكسيل، لفردين أو ثلاثة ملوثة عقولهم وقلوبهم، ليستعملوا أسلحة ومواد متفجرة سهلة الفبركة أو الاقتناء لا يتعدى ثمنها 5000 دولار ليموت المئات من الأبرياء كما وقع في باريس وتونس وكما يقع يومياً في دول إفريقية لا تذكر إلا نادراً في الأخبار الدولية.
- الدوام لله وحده، والأحداث المتتالية التي وقعت منذ سنة 2010 في وطننا العربي، منذ هروب بن علي من عقر داره، وتلك التي تقع في أقوى الدول الغربية في المجالات الأمنية والاقتصادية والاسخباراتية، تجعل كل متبصر خبير لا يستطيع التكهن بما سيقع في الفترات المقبلة، ولكن تلك الأحداث تومئ إلى أن الدول المحصنة أو القادرة على المواجهة أو الرد السريع لكل زلزال سياسي أو أمني أو مجتمعي أو اقتصادي، هي التي تنجح في تسيير الشأن العام، وهي التي تستطيع خلق الثقة بين أطراف المجال السياسي العام، وبين الفاعلين في المجال الاقتصادي والمالي والبنكي... وهي التي تنجح في الاستثمار في منظومة التربية والتعليم؛ وهي التي تنجح في زرع اليقين المواطناتي والتنموي في عقول أبنائها، وهي التي تبلور إستراتيجيات تنموية داخلية قادرة على فتح أبواب الشغل للملايين من الشباب الجدد الذين يلجون إلى عالمه كل سنة، وهؤلاء قنبلة لا يتفطن إليهم إلا الآحاد من الناس ولا يمكن إلهاؤهم بوعود أو بدعومات محدودة أو بمشاريع وهمية، لأنهم هم حماة الدول، ويُخطئ من يظن أن الدول بأجهزتها العسكرية والبوليسية هي التي تحمي الشعوب، بل بدون الثقة بين المجتمع المدني والدولة صل صلاة الجنازة على وفاة أبجديات القشرة الحامية للنخب السياسية المتواجدة.
وإذا كان هناك درس محدد للأحداث المتتالية التي عرفتها سنة 2016 والسنوات التي سبقتها، فهي أن الارتجالية في تسيير شؤون البلدان والعباد طامة كبرى وداهية عظمى، وأن قواعد المرحلة الحالية تستدعي وعياً متكاملاً وخبراء متبصرين وقادة حكماء في انصهار تام مع المجتمعات في نكران للذات وسعي لخلق الوحدة والإجماع، بقواعد الشغف والمسؤولية وبعد النظر. والشغف، يعني الانكباب على المشاكل ومعالجتها بشغف ودراية وليس بجهل وببلادة في كارنفال عقيم يطلق عليه اسم (الثورة) وفي إطار «رومانسية تدور في الفراغ»، ولا يمكنها أبداً أن تُؤتي أكلها ولو بعد حين، وبخاصة عندما تغيب المسؤولية وتطغى المصالح الذاتية الآنية على مصالح البلد. ثم يضاف إلى هذا كله بُعد النظر، وهي ملكة وتجربة ودراية وقوة وقدرة وصفة حاسمة عند السياسي لو تمتع بها العديد من بناة المجال السياسي العام الجديد في بعض الأوطان العربية لما زج بالدين في السياسة، أو زج بالسياسة في الدين، ولاشتغلوا بأولويات الأولويات؛ فانعدام المسافة بينه وبين الأشياء والناس هو أحد الأخطاء القاتلة بالنسبة إلى كل من يتعاطى السياسة، وهي إحدى الصفات التي يؤدي انغراسها في الأجيال الجديدة من المثقفين إلى الحكم عليهم بعدم القدرة على العمل السياسي، «فكل ترويض قوي للنفس، وهو الأمر الذي يتميز به كل سياسي يتصف بالشغف عن السياسيين الهواة الذي يتميزون «بالانفعال السياسي العقيم» يقوم أو يصبح ممكناً على التعود على اكتساب عادة اتخاذ هذه المسافة بكل ما للكلمة من معنى....».
وللأسف الشديد فبناة المجال السياسي العام في بعض الأوطان العربية ينظرون إلى المظاهر والظلال والسطحيات ويتغاضون عن الحقيقة الكينونية للأمور، فلا يمكن مثلاً للعالم الفيزيائي أن يدرّس لطلبته مظاهر وسطحيات الفيزياء وإلا بقوا محدودي المعرفة وزج بهم في الظلمات الدائمة. وإذا بقي المجال السياسي العام مريضاً فإن أدوات التنمية والبحث العلمي ستتوقف وتنهار... {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (35) سورة النــور.