علي الصراف
أعصاب البريطانيين باردة. ربما لأنهم شعب عرف الكثير من المحن، وأتقن التعامل معها. وربما لأن روح الدعابة (التي تدعى هنا: Sense of humour) تغلب على الانفعال. وحالما تتوازن هذه مع تلك، يظهر التعقل.
عندما كان مجرم مترو الأنفاق في لندن يطعن المارة قبل أيام، كان يصرخ بالقول «هذا من أجل سوريا».
تكفي هذه العبارة، للكشف عن أن الرجل مصاب بلوثة عقلية. فالإرهاب لا يقتل من أجل «سوريا». الإرهاب مناهض لكل وطن أصلاً.
ولكن الوصول بسرعة إلى هذا الاستنتاج أمر يتطلب معرفة مسبقة بطبيعة الإرهاب، وبثقافته. وهو ما ليس متاحاً بالضرورة لعابري السبيل في هذا البلد، الذين حافظوا على توازنهم حتى من دون أن يعرفوا تلك الحقيقة.
الإرهاب، إرهاب في النهاية، ولكن كيف ترد عليه، هو أنت.
وبينما كان المهاجم يطعن رجلاً يبلغ من العمر 56 عاماً، قال له أحد المارة «أنت لست مسلماً يا أخي»، وسرعان ما حوّل البريطانيون هذا التعبير إلى هاتشتاغ وتداولوه في كل مكان.
من ناحية، انقلب الموقف من الجريمة إلى دعابة، كما أنه تحول، من ناحية أخرى، إلى دفاع ضمني عن كل المسلمين في هذا البلد.
يعيش مليونا مسلم في بريطانيا، بأمن وسلام. ولئن ظهر بينهم متطرفون، فان البريطانيين يدركون جيدا أن التطرف ظاهرة لا تقتصر على المسلمين وحدهم.
التطرف الجمهوري الأيرلندي أشبعهم عمليات إرهاب كبرى، قبل المتطرفين المسلمين بكثير. وفي أكتوبر عام 1984، طال في إحداها مؤتمرا لحزب المحافظين، خرجت منه رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر نفسها معفرة بغبار انهيار المبنى.
توجد مظاهر شتى للتمييز والإقصاء ضد المسلمين، إلا أنهم تعلموا الرد عليها بأعصاب باردة أيضا. وصار بوسعهم أن يتعايشوا مع التمييز بمقدار مماثل من «روح الدعابة»، لكي لا نقول السخرية.
ولكن ثمة في رد الفعل البريطاني ما يمكن أن تشكل مقارنته بغيره فضيحة مدوية أيضاً.
المهاجم، كان قد لحق على طعن ثلاثة من المارة قبل أن تتمكن الشرطة من السيطرة عليه. ما حصل هو أن الشرطة استخدمت مسدساً كهربائياً شل حركته وأوقعه أرضا، الأمر الذي مكن الشرطة من تقييده والقاء القبض عليه، من دون أن يُصاب بأي أذى.
لو جرت عملية الطعن هذه في إسرائيل، فماذا كان سيحصل؟
الجنود الإسرائيليون كانوا سيطلقون عليه الرصاص الحي، ليردوه قتيلا على الفور. والحكومة الإسرائيلية كانت ستذهب إلى منزل عائلته لتهدمه. والشعب الإسرائيلي كان سيرد بمطالبة الحكومة بالمزيد من أعمال العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين. والمستوطنون كانوا سيتجولون في الشوارع وهم يحملون الرشاشات في وضع الجاهزية لإطلاق النار وكأنهم في رحلة صيد. جنود آخرون كانوا سيتدبرون فرصاً لقتل فلسطينيين حتى ولو من دون تهديد. وبعضهم سوف يأخذه الحقد والانفعال لكي يحمل سكينا ويضعها بيد أي ضحية من ضحاياه، ليزعم أنه قتلها «دفاعاً عن النفس».
تكنولوجيا الصعق الكهربائي متاحة لاسرائيل، مثل كل تكنولوجيا أخرى. ولكن الإسرائيليين يقتلون، لأنهم يريدون القتل حصراً، لسبب لا يتعلق بمقدار التهديد أو حقيقته، وانما بمقدار هشاشتهم النفسية، وبالشعور العميق بان وجودهم هش ويتطلب أعمال قتل للبرهنة عليه.
إنها مسألة نمط آخر من ردود الفعل؛ يقدم دلالة قاطعة على الضعف والتوتر والفشل الأخلاقي، وليس عجز الوسائل.
إنها مسألة انعدام حقيقي للثقة بالنفس. شعب مزيف، في كيان مزيف، لا بد له أن يكون انفعالياً، ولا بد له أن يقتل لكي يثبت (لنفسه) أنه قادر على الحياة.
المشكلة هي أن القتل، قد يحل مشكلة انعدام الثقة بالنفس لمدة عشر دقائق، ولكنه لا يمنح المزيف شعوراً حقيقياً بأنه موجود فعلاً.
لا شيء يبرر المقارنة بين الشعب البريطاني وبين «الشعب» الإسرائيلي. فالأول يمتلك القدرة على التعقل ويمارسها كجزء من طبيعته، أما الثاني، فإنه يقدم نفسه على أنه مجموعات مسلحين جاءت في رحلة صيد.