د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
أسعار النفط تسجل انخفاضات حادة جديدة عند أدنى مستوى في 11 عامًا عقب قرار الرئيس أوباما وموافقة الكونغرس على رفع حظر تصدير النفط الخام الأمريكي للخارج لأول مرة بعد حظر استمر 40 عامًا، وعادت أنشطة الحفر الأمريكية من جديد وزادت منصات الحفر بعد أن كانت سجلت تراجعات حادة على مدار الفترة الماضية.
وجاء اتساع فائض المخزونات ليثقل كاهل المعروض النفطي العالمي الذي يعاني تخمة حادة، في مقابل مستويات طلب ضعيفة، ما يؤخر تعافي وتوازن السوق ويزيد الفجوة بين العرض والطلب، ويضغط بشدة على مستويات الأسعار التي وصلت إلى 36 دولارًا للبرميل في 21 ديسمبر 2015.
أي أن أسعار الخام تراجعت لعامين متتاليين للمرة الأولى في 3 عقود، ووكالة الطاقة الدولية تحذر من انخفاض الطلب على النفط في 2016 بسبب أن السوق العالمي يعاني من الفائض المعروض الذي سيستمر في 2016 إذا فشلت الدول المنتجة في أوبك من تثبيت سقف الإنتاج، وبدأت وكالة الطاقة الدولية تغازل السعودية بأنها تتصرف بمسؤولية وقادرة على جلب التوازن للأسواق.
في ظل الأوضاع التي تعاني منها أسواق النفط هناك اتهام تم توجيهه إلى أوبك بأن دورها قد تراجع، بينما دول الأوبك بقيادة السعودية لا تدعي التحكم في السوق بل هي تؤكد فكرة التعاون والتكامل التي ترفضها الدول المنتجة من خارج أوبك، وتريد أن تتحمل دول أوبك المسؤولية بمفردها، بل تريد دول في أوبك أن تتحمل السعودية المسؤولية بمفردها هي وبقية دول الخليج، وهو ما تراه السعودية بأنه يسمح لمنتجي النفط عالي التكلفة بالإنتاج وهذا يخالف المنطق الاقتصادي.
جاء دخول النفط الأمريكي كمنافس تصديري جديد ليلهب المنافسة الحادة والمحتدمة على الحصص السوقية مع توقعات بأن يحقق بعض النجاحات في أسواق غرب أوروبا بصفة خاصة على حساب نفط روسيا وأوبك، كما سيسهم ارتفاع الدولار خاصة بعد رفع الفائدة في مزيد من الضغوط على أسعار الخام، وإضافة 17 حفارًا نفطيًا ليصل العدد الإجمالي إلى 54، بعدما كانت تتوقع منظمة أوبك تراجع معروض النفط من الولايات المتحدة وروسيا 380 ألف برميل يوميًا.
سجل النفط في الولايات المتحدة طفرة واسعة في أقل من ست سنوات فقد ارتفع بنحو 40 في المائة حيث كان إنتاج النفط في الولايات المتحدة في عام 2008 نحو خمسة ملايين برميل يوميًا وارتفع إلى 8.7 مليون برميل يوميًا في عام 2014 وهذه الطفرة الواسعة كانت نتاج التقدم التكنولوجي وزيادة القدرة على استخلاص النفط من الصخور العميقة فيما يعرف بالنفط الصخري.
لكن فرص النجاح كمصدر ضعيفة نظرًا لكونها ما زالت الولايات المتحدة مستوردة بالأساس إلى جانب أنها تدخل السوق وهو يرزح تحت واحدة من أسوأ أزماته، وتوجد به منافسة حادة على الحصص السوقية يتمتع فيها بميزات تنافسية أقوى المنتجين الأقل في تكلفة الإنتاج، ولن يؤثر حجم الصادرات الأمريكية في حجم المعروض النفطي المقدر بـ93 مليون برميل يوميًا بما يفوق الطلب العالمي بنحو مليوني برميل فائضًا.
أوبك تراهن على ارتداد عكسي للأسعار بفعل صعوبات إنتاجية، وهي تعد مرحلة الإنتاج السهل دون أعباء سوقية قد انتهت، ولكن هناك مطالب عاجلة للصناعة النفطية وتمكين الكفاءة وضبط تكاليف الإنتاج بشكل صارم. ترى أوبك أن سوق النفط تمر بصعوبات وتحديات كبيرة في المرحلة الحالية في ظل وجود عديد من العناصر الضاغطة على الأسعار، إلا أنه توقع أن تؤدي الأزمة الحالية في نهاية المطاف إلى الارتداد العكسي وارتفاع الأسعار على نحو مطرد وسريع، بعدما يمر العالم بمرحلة من وجود خطر حقيقي يهدد العملية الإنتاجية والاستثمارية نتيجة صعوبة إضافة قدرات إنتاجية جديدة لتلبية الطلب المستقبلي على النفط الخام، وبالتالي المشهد سيتغير بسبب الأزمة الراهنة إلى احتمال تفوق الطلب على العرض والعودة إلى الأسعار المرتفعة من جديد.
لا سبيل للمنتجين نحو خفض الإنتاج لأن توازن سوق الطاقة يتجه بشكل عام إلى الاعتماد على موارد ومصادر متعددة للطاقة وليس مصدرًا واحدًا، وحتى الآن لا يوجد نموًا في الطلب على النفط الخام خصوصًا في أوروبا، ويرجع ذلك إلى التحول نحو موارد الطاقة الجديدة والمتجددة التي يتزايد الاعتماد عليها على نحو واسع، إضافة إلى برامج كفاءة استهلاك الطاقة التي تقلل نمو الطلب خاصة في أوروبا.
ومن المتوقع أن تستمر أوبك والمنتجون من خارجها الإبقاء على سياسات الإنتاج وفق معدلات مرتفعة، وذلك في إطار تقلص الأسواق والمنافسة الشديدة على الحصص السوقية وتعويض جزئي لانهيار الأسعار بزيادة الصادرات وستستمر حتى تصل الأسعار إلى المستوى الذي لا يحتمله بعض المنتجين خصوصًا ذوي التكلفة المرتفعة، بينما أصحاب التكلفة المنخفضة فسيكونون أقدر على التواؤم والاستمرار في السوق ويفوزون بحصص أكبر في السوق ويتحملون العبء الأشد في تأمين الإمدادات والاحتياجات من الطاقة التقليدية.
قرار أوبك اختبار صمود لمنتجي النفط بالرغم من أنها دول متضررة أكثر من الدول المنتجة من خارج أوبك التي لا تعتمد على مصادر دخل النفط مثل أغلب دول الأوبك، رغم ذلك، فإن النفط الرخيص يضع الاقتصاد العالمي على منحدر خطر، ويؤدي إلى تقلص الاستثمارات في قطاع الطاقة بنحو أكثر من 200 مليار دولار في عام 2015، وحتى في الطاقة المتجددة نتيجة توفر النفط الرخيص، خصوصًا تلك التي ركبت طفرة النفط الصخري.
ووفق بنك التسويات الدولية، فإن إجمالي ديون قطاع الطاقة العالمي يزيد على 2.5 تريليون دولار، ستظل تمثل أحد جيوب الألم الموضعي للبنوك، بالرغم من أنها استطاعت امتصاص صدمة انخفاض أسعار النفط، لكن لن يجعلها تقدم على تقديم المزيد من القروض إلى قطاع الطاقة خلال الفترة المقبلة، لكن سيتم الاقتراض من خارج مؤسسات الإقراض والمصارف، لكنه سيكون مكلفًا بالنسبة للمقترضين، ما يجعل بعض شركات الأسهم الخاصة بأن يكون الحصول على تلك القروض من خارج المصارف أكبر مورد ربح لها في فصل الشتاء، يمكن أن نطلق على تلك الخطوات بعبقرية الرأسمالية.
وكما تشتد المنافسة بين النفط السعودي والروسي على السوق الصيني، كذلك فإن الغاز يسعى إلى انتزاع مقعد بين أقوى مصادر الطاقة في العالم بدعم من تنامي الاحتياطيات في الشرق الأوسط، وارتفاع الطلب عليه خصوصًا أن آسيا تستورد 30 في المائة من احتياجات الغاز الطبيعي من الخارج، ويتوقع أن يتضاعف ذلك بحلول عام 2040 وخصوصًا أن الغاز الطبيعي سيشهد طفرة مستقبلية بسبب أن الخطة الأمريكية تتجه نحو إحلال الغاز محل الفحم الحجري كمصدر أولي لتوليد الطاقة في الولايات المتحدة حيث مثل الفحم 44 في المائة من الوقود المستخدم لتوليد الطاقة في المحطات المحلية عام 2010، لكنه تراجع منذ ذلك الحين ليبلغ 30 في المائة، وارتفع نصيب الغاز الطبيعي من 22 في المائة إلى 31 في المائة، وخصوصًا أن صناع السياسة المحلية أكثر عدوانية ضد انبعاثات الكربون من الفحم وسيتم الاستغناء عن الفحم عندما تتوفر التكنولوجيا، لكن التكنولوجيا ليست كافية حتى الآن.
فيما النقل الأمن للغاز يعد تحديًا مقارنة بالفحم والنفط، فالشركات بحاجة إلى محطات التخزين مرتبطة بالأنابيب، فنتيجة الصراع الروسي الغربي، هناك خط أنابيب غاز يفلت أوروبا الشرقية من قبضة روسيا وقعت بولندا ودول البلطيق ليتوانيا ولاتفيا واستونيا على اتفاق لبناء خط أنابيب إستراتيجي للغاز في محاولة للإفلات من القبضة الروسية في مجال الطاقة على الأعضاء الثلاثة في الاتحاد الأوروبي بطول 534 كيلو مترًا يتم التشغيل عام 2019 والقدرة الأولية بنحو 2.4 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا ينقل من بولندا إلى لتوانيا ويحتمل أن ترتفع القدرة إلى 4 مليارات متر مكعب في السنة.
لكن في نفس الوقت هناك مشروع الغاز الروسي نورد ستريم الممتد من الساحل الروسي المطل على بحر البلطيق إلى ألمانيا متجنبًا المرور بالأراضي الأوكرانية لم ينل تأييد إلا من ألمانيا وهولندا أي اتسعت هوة الخلاف بين دول الاتحاد الأوروبي الغاضبة من الأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتمد روسيا أوروبا بنحو ثلث احتياجاته من الغاز، ويتم شحن نصف هذه الكمية تقريبًا من أوكرانيا.
في المقابل منذ أن أسقطت تركيا مقاتلة روسية علقتا الدولتان مفاوضاتهما حول مشروع أنبوب الغاز توركستريم السيل التركي الذي كان يفترض أن يمد تركيا على المدى الطويل جنوب أوروبا بالغاز، الذي أعلن عن هذا المشروع إثر التخلي بشكل مفاجئ في أوج الأزمة الأوكرانية عن مشروع ساوث ستريم الذي جمده الاتحاد الأوروبي، وكان السيل التركي تبلغ قدرته 63 مليار متر مكعب سنويًا، أي أن الأزمة بين البلدين أفشلت رغبة روسيا في اعتزامها أن تجعل تركيا العبور الجديد لنقل الغاز إلى أوروبا بدلاً من أوكرانيا.
مراهنة أسواق النفط على السوقين الصيني والهندي لتعويض صافي تقلص الواردات الأمريكية و60 في المائة من الزيادة العالمية في الطلب على النفط ستأتي من الدولتين الآسيويتين العملاقتين على مدى الأعوام الـ20 المقبلة بحلول 2035.