د. خالد محمد الصغِّير
تشكل الترجمة ضرورة تنموية لما فيها من منفعة متأتية من نشر المعرفة، ولكونها نافذة يطل من خلالها المتلقي العربي على ثقافات ونتاج العالم مباشرة مما ينتج عنه لقاء بالآخر وبحضارته، ويسد العجز المتمثل في افتقار العالم العربي إلى العديد من أنماط وأنواع المعرفة.كما أنها في الوقت نفسه فعل إيجابي يمكن الحركة الثقافية العربية من السير مع الحركة الإبداعية العالمية في ظل تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة، تتأثر كافة مكوناتها، وبخاصة الثقافية بعضها ببعض تأثيرا كبيرا، وكما أنها قناة لبناء جسور التواصل والاتصال، بل وحتى وسيلة فعالة لتغيير النظرة غير الصائبة التي قد تحملها أمة تجاه أخرى يسبب حينها إبرازها كفاعل حقيقي مساهم في بناء لبنات الحضارة الإنسانية - كما هو حال النظرة التي ينظر فيها أجزاء كبيرة من العالم تجاهنا - في هيئة الظروف المواتية لتتم الترجمة من اللغات العالمية الحية إلى اللغة العربية وبالعكس، عبر اختيار المناسب من الإنتاج المعرفي العربي الراقي وترجمته إلى لغة الآخر. وبالنظر إلى تلك الأهمية المتزايد التي أصبحت معها الترجمة أداة فاعلة لتكريس مجتمع المعرفة، ودفع الحوار بين الثقافات، وبحكم أنها استثمار في صناعة المعرفة نود أن نمر سريعا على ثمان قضايا تتطلب وقفات مطولة، ومعالجة مستفيضة، وعميقة. وحسبنا من خلال هذا العرض المقتضب تجليتها ولفت الأنظار إليها لعلها تلقى مزيدا من البحث والدراسة.
علاقة وموقف القارئ العربي من المضمون المعرفي المترجم:
علاقة القارئ العربي بالمضمون المعرفي للكتب المترجمة تتباين بحسب ثقافة المتلقي، والمادة المترجمة، وتوجهه الفكري، ولكن بصورة عامة يمكن القول إن هناك إقبالا كبيرا من القارئ العربي على اقتناء، وقراءة الكتب المترجمة؛ وذلك ربما يعود إلى رغبة القراء العرب في معرفة وجهة النظر الأخرى حيال العديد من القضايا والمسائل وفي مختلف مجالات المعرفة، والثقافة، والإبداع. وهذا الإقبال الكبير بالرغم من أن له جانبا إيجابيا كبيرا، لكنه يخشى من تزايده بحيث يقود إلى زهد القارئ العربي في الكتاب العربي، وعدم الاكتراث بالمؤلفين العرب، وبخاصة بالنظر إلى قلة المؤلفين العرب الذين يملكون مصداقية كافية لدى القارئ العربي في وقتنا الراهن، وامتلاك المؤلفين غير العرب لمهارات الإبداع، والإقناع، والجاذبية، والعقلانية في الطرح. وفي خضم هذا الإقبال الكبير لا مفر من الإشارة إلى أن هذا المحتوى المعرفي المترجم لا يشكل عبئا على قابلية القارئ العربي المعرفية والاستيعابية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنه قارئ ذكي يميز بين الغث والسمين، وهو قارئ محصن بثقافته العربية والإسلامية التي تقيه من التأثر السلبي بالمادة المعرفية المترجمة إلى اللغة العربية الخالدة، ولديه من التطور المعرفي ما يؤهله لأن يميز الأطروحات المفيدة وغير المفيدة، ولديه قدرة على هضم الكم الكبير من الترجمات في إطار مبادئ ثقافته العربية. وموافقة هذا الرأي تستدعي عدم ممارسة الوصاية على القارئ العربي، وجعله ينهل من الجديد في ميادين الإبداع الثقافي والمعرفي العالمي.
جملة مقترحات لدور النشر المهتمة بالترجمة:
دور النشر تضطلع بدور كبير في عملية الترجمة من وإلى العربية وهنا نسوق جملة من المسائل التي نتمنى أن تحظى بعناية كبيرة من لدن القائمين على دور النشر تلك. فيجب أن تتم معالجة مسائل الطباعة بشروط عالية، والتوزيع على نطاق واسع، وإخراج الكتاب بشكل جميل، بالإضافة إلى نيل المترجم لحقوقه المادية؛ حيث تقوم معظم دور النشر بهضم حقه، مع أنه الطرف الأهم في معادلة الترجمة. كما ينبغي النظر في العناوين التي يتم نقلها إلى العربية، حيث يكون هناك تنوع من علم، وأدب، وفنون، وحاسب آلي وغيرها من المعارف المفيدة والتي في حالة توفيرها وجعلها في متناول القارئ العربي سوف تسهم ولو بجزء بسيط في إقالتنا من عثراتنا الثقافية، وإحالتنا من التقدم لا التبعية، وفي الوقت نفسه تقودنا إلى النهل من العلوم الحديثة لا الغوص أكثر في الماضي الذي لا نريد محوه بل تنوير بعض ما فيه من لحظات حضارية ألهمت العالم كله في العصور الوسطى. ثم إن هذه الدور يجب أن تقوم بدراسات ميدانية تتعرف فيها على طبيعة، وحجم، وما هو احتياج القارئ العربي؛ والسبب في أهمية وجود إجابات على تلك الأسئلة يصب في المقام الأول في مصلحة تلك الدور حتى لا تقدم على إنفاق الأموال الطائلة في ترجمة كتب من دون تحقيق من مكاسب توازي هذه المبالغ المدفوعة من نسب القراء المهتمين بالكتب المترجمة. وهذا يضعنا عمليا أمام المهمات الأخرى الأساسية التي تتجاوز عملية النشر نفسها.
إن عشرات الكتب المهمة التي تترجم سنويا هنا وهناك وفي أكثر من عاصمة عربية والتي غالبا لا تلاقي نصف الرواج الذي تستحقه تدل على أن المشكلة تتجاوز المنتج نفسه، رغم أهمية توفيره بمعايير عالية ترتقي بالترجمة نفسها، إلى كيفية طرح هذا المنتج وإيصاله واستثماره. وهذا ما يحسن أن يكون الهم الأول لدور النشر القائمة على النشر عموما، والترجمة خصوصا، بمعنى تخصيص جزء أساسي من النواحي البحثية ذات المساس المباشر بالترجمة للتفكير بالقارئ العربي، وكيفية التواصل معه، وتوفير عناصر جاذبة بما فيه الكفاية لكي يقبل على القراءة أولا كضرورة أساسية للارتقاء، والتطور، والمتعة على حد سواء.
ثم تأتي قضية ملحة تتعلق بضرورة التنسيق بين دور النشر المهتمة بنشر الكتب المترجمة، لكي لا تبدد الجهود بتكرار ترجمة كتاب، أو التركيز على مجال دون آخر. وإلى جانب ذلك تأتي ضرورة التنسيق مع دور النشر العربية التي تملك حقوق نشر العناوين المترجمة لكي لا تتم ترجمة هذه العناوين مرة أخرى مما يتسبب بتضارب المصالح بين الناشرين، بل وحتى المترجمين أنفسهم.
وأمر آخر لم يلق عناية كبرى والمتمثل في عدم ترجمة أعمالنا العربية إلى اللغات الأخرى، وذلك لكي نفتح لهم نوافذ على ثقافتنا وطرائق تفكيرنا، ما سيسهم بدوره في ردم القطيعة التي تفصل أمتنا عن باقي الأمم، فقد لا يدرك كثير من الناس أن بني البشر متفقون في أكثر الأمور وأن نقاط الاختلاف ضئيلة، وأن السر الذي يكمن خلف كراهية أحد الأطراف للآخر هو الجهل بالشيء، وهو الذي يولد الخوف منه وبالتالي الخلاف معه.
المشهد العربي العام للترجمة في الوطن العربي:
يلحظ المتابع أن المشهد العام للترجمة في الوطن العربي حاليا تكتنفه عوامل تفكك وانهيار عامة وأخرى خاصة، كما أنه يوصم بقلة الإنتاج الفكري المترجم، وكذلك لم ترق حركة الترجمة بعد إلى مستوى يحقق الطموح والتطلع. وإضافة إلى ذلك يلاحظ أن معظم المترجمين أصحاب مشروعات محدودة يغيب عن معظمها التنسيق، أو أي وجه من التعاون. كما أنه رغم وجود عدد كبير من المترجمين إلا أنه لم يعد كافيا في ظل المتغيرات الحالية، وهم لا يغطون أيضا مجالات الحياة المختلفة، فمترجمو العلوم الحديثة مثلا لا يتعدون العشرات، بينما ينبغي أن نتوفر على أضعافهم حتى نواكب المتغيرات الجديدة التي تحدث في العالم بين كل دقيقة وأخرى. وهذا لا يعني تجاهل التحول النوعي في النظرة على المستوى والصعيد الرسمية، أو لنقل بعبارة أدق مبادرات ومشروعات الترجمة التي تمت ترجمتها بمنح الترجمة بمزيد من الاهتمام، وكذلك منح جوائز قيمة للترجمة، وفي أحيان أخرى إنشاء مراكز للترجمة.
حركة الترجمة العلمية:
إن حركة الترجمة العلمية في الوطن العربي لا تزال في تقهقر بالغ إلى وقتنا الراهن وهذه نتيجة مباشرة لجهد بعثات الترجمة العربية التي ذهبت إلى الغرب في القرن التاسع عشر وكان جل جهدها منصبا على نقل المنتج المعرفي الأدبي على حساب ترجمة الكتب العلمية، واليوم تساهم دور النشر في هذا التوجه بنظرتها الربحية القاصرة التي جعلتها تعمل على الترجمة التي تعزف عن ترجمة الكتب العلمية الهامة لعدم رواجها تجاريا، ورغبة منها في تلبية مطالب السوق الآنية والعابرة. وقد أدى ذلك كله إلى الأمر الذي جعل المكتبة العربية فقيرة في الكتب العلمية المتميزة المترجمة من اللغات الأجنبية وبالتالي حرمان قطاع عريض من الجمهور العربي من الاطلاع على الأعمال المتميزة في مجالها العلمي، وبخاصة التطبيقي منه.
الوصول إلى قلب العالم وعقله:
حين خرج اليابانيون من ويلات الحرب العالمية الثانية، واشتد عود اقتصادهم، وشرعوا يصدرون السيارات والآلات الكهربائية وعندما حققوا تقدما ونجاحا في هذا المضمار فكروا حينها بأن يصدروا معها إبداعهم وفكرهم، ومن هنا بدأوا بمشاريع للترجمة لم يقوموا بها بمفردهم، وإنما دعموا مؤسسات غربية وحرضوها على ترجمة نتاجهم. ولذا إن كنا نريد أن نصل إلى قلب العالم وعقله فلا مناص لنا من سلك السبيل ذاته، وبخاصة أننا ندرك حجم التكاليف المادية الباهظة للترجمة والتي تحول دون نقل المنتج المعرفي العربي إلى الآخر عن طريق ترجمة ما لدينا من نتاج إلى لغته، ولهذا لابد من تدخل ومساهمة الجهات الرسمية العربية لتبني مشاريع ترجمة والعمل جنبا إلى جنب مع دور النشر العربية على ترجمة الكتاب العربي. كما أن الجهات الرسمية العربية يمكن أن تسند مهمة نشر الكتب العربية المترجمة عن طريق سفاراتها الخارجية، وكذلك عن طريق المشاركة بالمعارض العالمية. وحتى يكون بإمكاننا إضافة رصيد أكبر لواقع الترجمة العربية، يجب ألا تنحصر جهودنا فقط في ترجمة الكتب وإنما يجب أن نقوم بترجمة الإنتاج الفني والسينمائي بما في ذلك الأفلام الروائية والوثائقية، والمؤتمرات، والتغطيات، والمقالات الصحافية.
دور المترجمين العرب:
يبدو أن عدم وجود حضور ملموس للكتاب العربي المترجم إلى اللغات الأخرى يعود في المقام الأول إلى المؤلفين العرب، ويشاطرهم في ذلك أيضا المترجمون أنفسهم. فالكاتب العربي لم يعمل على طرق المواضيع التي لها نصيب من اهتمام القارئ الأجنبي، ويحفز بالتالي حركة الترجمة من العربية إلى اللغات العالمية الأخرى. فالضامن لقبول منتجنا المترجم إلى اللغات الأخرى يتوقف على مدى كونه من ذلك النوع من الكتب التي يبحث عنها أفراد ومؤسسات شعوب العالم.
أهمية استمرار جهود الترجمة في الوقت الراهن:
من الضرورة بمكان أن تستمر جهود الترجمة في عصر المعلومات والمعرفة التي تطرح بديلا عن العجز والتخلف المعرفي عبر دفق معرفي ومعلوماتي. وهي جهود محمودة، وكذلك ضرورية تصب في مصلحة القارئ العربي وهي فقط بحاجة أن يوجه مسارها بحيث تعتني بالكيف لا الكم، وأن يتم اختيار موضوعاتها بعناية، ويتم تنقيتها وتهذيبها من أخطاء الترجمة حتى تؤتي أكلها، وأن يكون هناك مزيد من التنسيق والتنظيم بين مؤسسات فكرية حديثة الولادة تعنى بالترجمة، وأخرى تقوم على تدريسها، ومشروعات ترجمة عربية متناثرة في أجزاء متفرقة في العالم العربي، وجميعها بحاجة إلى تقويم علمي، ورصد لمخرجاتها. وإلى جانب ذلك كله يجب أن تجرى دراسات مفصلة قبل البدء في تطبيق هذه المشاريع لكي يتم الوقوف على حاجات القارئ العربي، ونواقص المكتبة العربية.
مستقبل الترجمة:
يبدو أن الترجمة تزداد أهمية مع بزوغ فجر كل يوم جديد، وفي ظل اتساع دائرة التواصل بين شعوب الأرض قاطبة بسبب وسائل الاتصال الحديثة التي جعلت من الكون بمثابة قرية صغيرة يسهل فيها التواصل، والتبادل في المنتج المعرفي والثقافي وهذه الحقيقة جعلت من الترجمة أمرا حتميا نراه يتطور عاما بعد آخر، ونحن في عالمنا العربي الكبير الممتد من خليجه الماطر حتى محيطه الهادر في أمسّ الحاجة إليها حتى يمكننا الاستفادة مما لدى شعوب الأرض من معارف وعلوم، وفي الوقت نفسه لتكون قناة تساعدنا في تنقية وتصحيح النظرة السلبية والدونية التي يحملها الآخرون عنا.
وهكذا فهذه وقفات سريعة ألقينا فيها نظرة حيال بعض من القضايا الكبرى التي لها مساس بمشروع الترجمة على نطاق الأمة العربية التي هي بحاجة تضافر جهود أبنائها ومؤسساتها من أجل تفعيل هذا المشروع الحيوي كيف لا والترجمة نافذة فكرية تمنح أمتنا العربية آفاقا أرحب في التواصل مع الآخر في كل مجالات إبداعهن، كما أنها في حال تنشيطها بقدر كاف تساهم في سد الفجوة الراهنة في المكتبة العربية الناجمة عن القصور في المشهد العربي في مواكبة حركة النشر السريعة في أصقاع متفرقة في العالم، وبخاصة الغربي منه، والأمر لا يتوقف عند هذا وإنما يؤدي وجود حركة ترجمة نشطة إلى نشر ثقافة القراءة والاطلاع لدى قطاع عريض في المجتمع العربي، وبالتالي يساعد ذلك على خلق قاعدة أساسية للتطور العلمي والثقافي.