د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
التستر لغة مشتق من الستر وهو أمر محمود. والتستر عرفاً وتجارةً خلاف ذلك، ويعني أن يحصل مواطن (أو مواطنة) على سجل تجاري ويصدر بموجبه تأشيرات لدخول إلى المملكة بحجة الحاجة الماسة لها في أعماله، وبادعاء أنه لا يوجد سعودي يمكن سد هذه الحاجة في نشاط أعماله، ثم
يبيع هذه التأشيرات لأي وافد يدفع أكثر، يستقدمه ويفتح له حدود البلاد ثم يتركه يفعل ما يحلو له في المجتمع ويكون بمثابة الستر على ما يمارسه من أعمال بتوقيع أوراقه عند الحاجة للتمويه على السلطات المحلية مقابل مبلغ معين لكل توقيع. وإذا كان عدد المكفولين كبيراً فيتولى عادةً هذه المهمات وافد آخر بتفويض من صاحب العمل. والتستر أصبح حديث المجتمع لأنه تحول تدريجياً لتجارة شبه متعارف عليها أحالت السوق العمالية لنوع من الفوضى لا يعلمها إلا الله. وهو - وللأسف - لم يعد قاصراً على أنشطة الأعمال الصغيرة بل دخلت هذا المجال أنشطة تجارية تسترية كبيرة تعد تأشيراتها بالآلاف. وبحسب الإحصاءات المعلنة يوجد لدينا 300 ألف سجل مقاولات بأسماء نساء بالرغم من حظر هذا النشاط عليهن سلفاً. وبعد قوانين الاستثمار الأخيرة أصبح الوافد وليس المواطن فقط يمارس هذه الظاهرة، واصبحنا نشاهد أسراً كاملة تمارس بعض الأنشطة، والجميع يعمل طبعاً بلا تصاريح.
والتستر من وجه نظر المكفول هو شراء لحق دخول المملكة والعمل فيها، حق شبه مكتسب اشتراه بِحُرِّ ما له من شخص رخيص جشع لا ما نع لديه من التلاعب بأنظمة بلده من أجل المال. ولذا فهو يعمل جاهداً في أحسن الأحوال على تعويض ما دفعه لكفيلته أو رسوم تأشيرته وإقامته من مواطن آخر برفع السعر عليه لأن الجميع في نظره كفلاء بشكل أو آخر. وفي أسوأ الأحوال يتحول ذلك لامتعاض وحقد على الكفيل وعلى المجتمع لأنه في نظره يأخذ المال بلا مقابل، ويترجم في الرغبة للانتقام من المجتمع بالإساءة له في أي فرصة سانحة، أو على أقل تقدير في انعدام الاحترام للأنظمة والمرافق الحكومية. وهذا المنطق قد لا يفهمه كثير من المتسترين الذين يعتقدون أن الأمر يتوقف عند بيع التأشيرة أو عند تقبيل النشاط التجاري فقط. وفيما يلي قصة عايشتها الأسبوع الماضي تصور كيف يمارس التستر في أكثر صوره نمطية.
وهذه القضية مقيدة في قسم الشرطة لأحد أحياء وسط شمال الرياض وبطلها وافد بكفالة ولا رعاية. وهي وقعت لأسرة كريمة مسالمة من أسر الرياض تعرض عائلها لعارض صحي ونُوِّمَ في المستشفى، فانقسمت الأسرة بين رعاية والدها والعناية بمنزلها. وكانت لدى الأسرة أعمال إصلاح بلاط بسيطة بسبب سوء عمل المبلط السابق فحاولت الأسرة الاستعانة بمبلط من فلة مجاورة تحت الترميم لإصلاحه عبر وسيط عربي كالعادة لأن الوسطاء من الوافدين أكثر من العمالة هذه الأيام. أتى المبلط، وهو من جنسية آسيوية، ووضع عدته في البيت ووعد بالحضور في اليوم التالي لكنه حضر متأخراً ليلاً فلم يفتح له أحد فأخذ يقرع الباب بقوة أرعبت من فيه قبل أن ينصرف بعد أن شتم كل من في البيت عبر الإنتركوم. وبعد سؤال الرجل الذي أحضره أجاب أنه لا يعرفه وإن علمه به يقتصر على العمل لديه فقط كمبلط في الليل لأنه ينام في النهار! وفي اليوم التالي عاود المبلط الحضور بعد الساعة الحادية عشرة مساءً وأخذ يضرب الباب هذه المرة ببلوك بناء ويحطمه صارخاً: افتحوا الباب، هذا بيتي الذي اعطاني إياه الله، أريد أدخل بيتي، هذه البلاد لكل المسلمين!! وبعد أن كسر الانتركوم، وحطّم أجزاء من الباب اتصلت البنات المرعوبات بوالدتهن التي حضرت بسرعة ووجدته أمام البيت إلا أنها تفاجأت به يحاول فتح باب السيارة والركوب فيها، فأمرت السيدة السائق بعدم التوقف واتصلت بالشرطة بينما هي تحوم حول منزلها خوفاً على بناتها. حضرت الشرطة فأخبر رجل الدورية الأسرة أنه لا شأن للشرطة به، وأن المعني به ربما هي الصحة النفسية! ثم طلب من السيدة الحضور للمخفر لكتابة بلاغ فرفضت السيدة خشية إساءة الناس فهم رؤيتها تدخل المخفر، وليقينها أن حضور الشرطة بحد ذاته سيردع الجاني.
لكن الشرطة أخلت سبيله فيما بعد ليعود في الليلة التالية ويضرب الباب بشكل أقوى من سابقه والأسرة تعيش حالة رعب لا يعلمها إلا الله! فبحثوا عن رقم الكفيل واتصلوا به فأجابهم: ما عليكم، ما لكم إلا ما يرضيكم! ولم يكلف نفسه حتى عناء الحضور، والاعتذار أو الاطلاع على ما فعله مكفوله. الرجل عاود الشيء ذاتها مرة أخرى لليلة الرابعة فامسك به بعض شباب الأسرة واتصلوا بالشرطة مرة أخرى فتلفظ على الشرطة قبل أن يهرب منها! كل ذلك والأسرة لا تعلم ما يمكن أن تعمل. ثم وجده بعض الشباب مرة أخرى حيث اعتاد النوم في النهار بين عمائر مجاورة، ودلوا دورية الشرطة عليه فأخذته هذه المرة وحتى ساعته لم يعاود تكسير الباب! إلا أن رعبه لا يزال يخيم على الأسرة.
هذا هو باختصار وضع كثير من العمالة لدينا، متستر يحضره مكفول ويفلته في المجتمع وغالباً ما يكون أسيوياً، ووسيط وافد عربي يتلقفه ليشغله في مقاولات يأخذها باسم متستر آخر ويقبض فارق العمل الذي هو عادة أعلى كلفة من العمل ذاته. وبما أن العمالة فائضة عن الحاجة فالكثير من الوافدين العرب لا يعملون بأيديهم هذه الأيام ويكتفون بالعمولات والسمسرة على وافدين آسيويين، أي بعبارة أخرى عمالة وافدة تشغّل وتسمسر على عمالة أخرى. وعند حدوث قضية مثل هذه تحاول الشرطة لملمتها لأنها مشغولة بأمور أهم، والكفيل دائماً مشغول عن الحضور. وليت الشرط تفصح عما لديها من قضايا مماثلة ليعرف المجتمع تبعات وضع التستر التي وقفت بعض أجهزتنا الرسمية عاجزة حياله.
نحن في غالبيتنا شعب طيب يخاف الله، ويحرص ألا يخوض في الحرام، ولكن بعضنا - وهذا أمر غريب حقاً - لا يرى في التستر ضيراً بل يراه تجارة متاحة وهي في نظره غير مستحبة فقط لأنه في نظره لا يعدو كونه مخالفة نظامية بسيطة. والكاتب بالطبع ليس عالماً شرعيًا أو مفتياً، ولكن من الناحية النظامية والقانونية، والتي هي لا تختلف في مواقفها عن الشريعة من حيث رفض الضرر على المجتمع، قد لا تبيح ذلك. فالكفيل يرتكب في أقل الأحوال مخالفات عدة:- أولها الإخلال بالتزاماته التعاقدية مع الدولة بالإخلال بهدف الاستقدام وبنية التعاقد وقصده. وثانيها: الإهمال في المسئولية إذا تركه يعمل دون علمه ورقابته. وثالثها: أن الكفيل يأخذ في ذمته جميع أعمال الغش، والضرر، والسرقة، وخيانة الأمانة التي تقع بحق الآخرين مما يرتكبه مكفوله بسبب التقصير في متابعته. كما أن التستر بلا شك سبب رئيس في توتر العلاقة بين بعض الوافدين والمواطنين، وهو السبب أيضاً في عدم احترام بعض الوافدين للبلد وأنظمته ومرافقه العامة.