أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
لمَّا كان مؤلِّف كتاب «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود» قد ربط أسماء المواضع التوراتيَّة ببلاد (غامد وزهران)، فقد سلكَ مسلكَ (كمال الصليبي) الذي كان قد ربط تلك الأسماء بـ(عسير)؛ فغدا يتلمَّس المفردات التوراتيَّة المتباينة في أسماء المواضع في المنطقة، دونما تساؤلٍ عن علاقة الاسم بذلك التاريخ التوراتي؟ ولا ما أصله؟ ومتى وُجد؟
من أمثلة ذلك ربطه بين «بلاد زاهي» الوارد ذكرها في «التوراة» واسم (زهران). ومن ثَمَّ ذهبَ يحلِّل اسم «زه-ران»؛ فـ»زه» بالكلدانيَّة يعني: الشمس، و»رن»: الشمس أيضًا، أو العَين، أو الراني؛ فيكون المعنى: «بلاد الشمس المشرقة، أو «شمس رانيا»، و(شمس رانيا) كان أكبر الأرباب في تلك المنطقة!»(1) هذا ما انتهى إليه. فإذن «بلاد زاهي» لا علاقة لها بـ(فينيقيا) ولا بـ(فلسطين)، بل هي ببساطة: «زهران» الحاليَّة. غير أنه لم يسأل، قبل الإبحار إلى الكلدانيَّة، ما معنى هذا الاسم «زهران»؟ ولما، أو لمَن، هو؟ ومتى وُجِد؟ ولو سأل، لكانت الإجابة أن «زهران» اسم إنسان، لا اسم مكان. وهو: (زهران بن كعب بن الحارث بن كعب)، من (أزد شنوءة). ولَعَرَفَ أن عبارة «بلاد زاهي» حين ذُكرت في «التوراة» لم يكن زهران بن كعب هذا قد خُلِق أصلًا. بل لعلّ (الأزد) أجداده أنفسهم لم يكونوا قد نزحوا من اليَمَن متفرِّقين في الجزيرة العربيَّة وخارجها. ونحن نعلم أن تسمية بلاد زهران بهذا الاسم ليس بالقديم، حتى في التاريخ العربي، الإسلامي والجاهلي، بل كانت تُسمَّى بلاد (دَوْس)، أو بلاد (بني فَهْم وعَدْوان). بيدَ أن هؤلاء «المؤرِّخين» ما فتئوا يقفزون قفزاتهم البهلوانيَّة بين الأسماء المعاصرة ومجاهل التاريخ؛ لربط أول التاريخ بآخِره اعتسافًا، دون أن يحفلوا بعدئذٍ بقرائن خارج تشابهات الأصوات والأسماء. وكـ(زهران) خاض المؤلِّف بعيدًا في تأويل اسم (غامد). معتقِدًا أن كلمة «غامد» تعني: أرض النجاة/ أرض الخلاص/ أرض المخلِّص. ثمَّ شَرَعَ يحلِّل، فزعم أن أصل الاسم «جيا= أرض، وميدو= ناجٍ/ مخلِّص/ منقذ/ منجِّي»، حسب القاموس الكلداني، رابطًا ذلك ببعض الأساطير السوريَّة القديمة.(2) فأين راحَ (غامِد بن عبدالله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبدالله بن مالك بن نصر بن الأزد، الأزدي الشَّنُوئي)، جَدّ هذه القبيلة الذي نُسبت إليه ونُسبت إليه أرضها؟ لقد ذهب أدراج القاموس الكلداني والأساطير السوريَّة القديمة!
إن «غامدًا» اسم إنسان في الأصل لا اسم مكان. وهذا الاسم من أسماء الرجال المعروفة عند العرب. منها، مثالًا: جدُّ (الدُّوْل)، من (عَنَزَة): (الدُّوْل بن سعد بن مَنَاة بن غامد). ولا علاقة لهؤلاء بغامِد السَّراة. وكذلك (غامِدَة) أبو قبيلة من جُهَينة، على ما قيل. وهو اسمٌ متداوَل، للناس والمواضع أيضًا، كـ(غُمْدان)، في (اليَمامة)، و(غُمدان) و(الغُِمادُ)، في (اليَمَن). وهو اسم نَعْتٍ، بالامتلاء والتمكُّن على الأرجح؛ لذلك سمَّى العرب السفينة المشحونة: غامِد، وغامِدة. وذهب (ابن الكلبي) إلى أن جدّ قبيلة غامد سُمِّيَ غامِدًا لأَنه تَغَمَّدَ أَمرًا كان بينه وبين عشيرته، أي سَتَرَه أو أصلحه، فسمّاه مَلِكٌ من ملوك حِمْير غامدًا؛ وأَنشد لغامد:
تَغَمَّدْتُ أَمرًا كان بَينَ عَشِيرَتي
فَسَمَّانيَ القَيْلُ الحَضُورِيُّ غامِدا
وقيل اسمه الأصلي: (عمرو بن عبدالله، أو عُمَر). ونفى (الأَصمعي) أن اشتقاقه ممّا قال (ابن الكلبي)، وإِنما هو من قولهم: غَمَدَتِ البئرُ غَمْدًا، إذا كثُر ماؤُها.(3)
وكما ربط الصليبي بين اسم «السَّراة» و»إسرائيل» تارةً واسم «سارة» تارةً أخرى، جاءنا (داوود) ليربط اسم «السَّراة» بـ»السريان» و»السرويّين»!(4) وهكذا، «كلٌّ على همِّه سَرَى»، كما يقول التعبير الشعبي! لأن المسألة لدى كليهما حُروفيَّة تأوّليَّة بحتة، لا تستند إلى أدلَّة. بل هما، إذ يلتمسان العلاقات الصوتيَّة البعيدة بين الأسماء العربيَّة ولغات ساميَّة أخرى، لا يُعِيران تاريخ العربيَّة الذي سُكَّت تلك الكلمات في إطاره اللغوي والبيئي والثقافي والزمني التفاتًا. وقد تقدَّم النقاش في مقال سابق حول مفردة «سَراة» في العربيَّة، أصلها وتاريخها، اللذين لا يحتملان تلك الفرضيَّات أو التخرُّصات التأويليَّة.
ثمَّ يُضيف إلى معلوماتنا أن جبل (لبنان) يقع ببلاد غامد، غرب (الثرات/ الفرات= ثَرَاد)، وأن الإشارات التوراتيَّة هي إلى تلك الأماكن، لا إلى لبنان المعروف. أمَّا كيف؟ ومن أين له هذا؟ فلا يكاد يحير جوابًا، ولا تجد لديه غَناءً. سِوى أنه يزعم أن كلّ المواطن في خارج الجزيرة العربيَّة إنما سُمِّيت بأسمائها المشهورة «تيمُّنًا» بأسماء قديمة في داخل الجزيرة، ولاسيما في سراة غام د تحديدًا؛ حيث يرى هناك تاريخ البشريَّة جمعاء، منذ آدم، فنوح... وهلمّ جرًّا، يشبِّه لك تلك الأسماء تارةً ويخترعها تارةً أخرى.
وهذا النهج لديه، ولدى الصليبي من قَبل، مغالِطٌ على نحو عابثٍ مستخفّ. ذلك أنهما إذا لم يجدا الأسماء التوراتيَّة في (الشام)، قالا: ألم نقل لكم؟ إن الأحداث لم تكن هنا، وبنو إسرائيل لم يكن لهم تاريخ في بلاد الشام، وإلّا لبقيت الأسماء التوراتيَّة مستعملةً إلى الآن، ثمّ ذهبا يتكلَّفان التفتيش عن تلك الأسماء في شِبه الجزيرة العربيَّة بصُوَرٍ عجيبة، وإذا وجدا الأسماء التوراتيَّة ماثلةً في (الشام) أو في (العراق) أو في (مِصْر)، قالا: كلّا، ليست هذه هي المعنيَّة، بل المعنيَّة أسماء في شِبه الجزيرة العربيَّة! يفعلان هذا مهما كانت الأسماء صريحة وواضحة وراسخة في التاريخ، وبما في ذلك اسم: (فلسطين)، و(أورشليم)، و(الناصرة)، و(الأُردنّ)، و(عَمَّان)، و(دمشق)، و(لُبنان)، و(صُوْر)، و(الفُرات)، و(مِصْر)، و(سيناء). فكلّ هذه وغيرها ليست تشير إلى تلك الأسماء التاريخيَّة المشهورة، بل إلى أسماء نكرات مجهولة، لا يعرفها حتى أهلها من أبناء الجزيرة. فأيّ مكابرة فوق هذه؟!
وفي غضون هذا، كثيرًا ما يعيدنا داوود- مستشهِدًا- إلى خزعبلات ما رواه (الطبري) في تاريخه، أو إلى الأساطير السومريَّة: المنبع الشعبي لتُرَّهات الأوَّلين والآخِرين معًا.. ولبئس الرِّفْد المرفود! وكأنما هو يفترض أن على القُرّاء أن يؤمنوا بما قال ويسلِّموا تسليمًا، كي ينجوا من تهمة المؤامرة التاريخيَّة الصهيونيَّة العالميَّة، أو لعلّه يتصوّر أن قارئ اليوم- مؤرِّخًا أو غير مؤرِّخ- ما زالت الحكايات التي سردها الطبري، حول بداية الخلق وأحوال الكون وتاريخ الأُمم البائدة والملوك والرسل، محلّ احترامه العِلْمي، ومصدر توثيقٍ يُعتدّ به في شأن ماضٍ لا عِلْم به، لا للطبري ولا لمرجعيَّاته، يعدو نثر الأقاصيص المتوارثة والاستكثار من التدوين لأساطير الجدّات والأجداد، ممّا حشره الطبري، بلا أدنى حِسٍّ نقديٍّ، في الجزء الأوّل من «تاريخ الرسل والملوك». وهو من السوءات التاريخيَّة الفاضحة، التي كانت جديرة بالغربلة النقديَّة قبل التوجُّه باللائمة إلى الكتابات التاريخيَّة المعاصرة، أو صبّ جام التجريم على أعمال الغربيِّين ودسائس المستشرقين. بذا فإن كتاب داوود أقرب إلى أن يكون استعراضًا إعلاميًّا قوميًّا- لنفي أيّ تاريخ لـ(إبراهيم) ولذريّته في الشام والعراق، وقذفهم جميعًا إلى جزيرة العرب- من أن يكون كتاب بحثٍ منهاجيٍّ وتحقيقٍ عِلْمي. هذا على الرغم من نصّ «التوراة»(5) الصريح في هجرة إبراهيم من العراق إلى فلسطين: «وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطًا بْنَ هَارَانَ، ابْنَ ابْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعًا مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ.» والحقّ أن الصليبي، ومهما اختلفنا حول طرحه، كان خيرًا من داوود عرضًا، وأَلْفَتَ اجتهادًا في التأويل، ومحاولةً للإقناع، وتحرّرًا من النعرات القوميَّة والسياسيَّة.
والمؤلِّف، إذ ينسب التزوير في تاريخ بني إسرائيل إلى الصهيونية العالميّة تارة، وإلى المستشرقين ومَن لفّ لفّهم تارة أخرى، يتناسى أنه تاريخٌ لدى العرب منه قِسْطٌ أيضًا ولدى غيرهم، من قبل وجود الصهيونيَّة العالميَّة، وقبل الاستعمار والمستشرقين؛ فقد جاءت نماذج منه لدى (وهب بن مُنَبِّه)، و(ابن هشام)، و(ابن المجاور)، و(الهمداني)، مع حرص الصليبي من قبل على إسقاطها من شواهده أنَّى ثقفها. فهل وهب بن مُنَبِّه، وابن هشام، وابن المجاور، والهمداني، وغيرهم من مؤرّخي العرب القدماء وجغرافيِّيهم، كانوا من ضحايا الصهيونيَّة والمستشرقين والجامعات الغربيَّة؟! على حين كان مؤلِّفنا يرتضي آراء كثير من المستشرقين حين يُدلون بما شاء، مثل (وينكلر)، و(كريمر)، و(كون)، و(أدوارد دورم)، وغيرهم ممّن يذكرهم، ويتقوَّى بأقوالهم.(6) وهذه انتقائيَّة صلعاء، تُزري بالبحث العِلْمي، وتقذفه في أتون الأدلجة.
** ** **
(1) انظر: داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 177- 178.
(2) انظر: م.ن، 224- 225.
(3) انظر: ابن دريد، (1991)، الاشتقاق، تحقيق: عبدالسلام محمَّد هارون (بيروت: دار الجيل)، 2: 492؛ الزبيدي، تاج العروس، (غمد)، وغيرهما.
(4) انظر: داوود، 227.
(5) سِفر التكوين، 11: 31.
(6) من ذلك استرفاده الألماني (وينكلر)، الذي عزَّز به رأيه في أن (مِصْر) و(كُوْش) الواردتَين في «التوراة» هما في جزيرة العرب. (انظر: داوود، 80). مع أن وينكلر إنما أشار إلى أمثلة لوقوع بعض الإشارات التوراتيَّة في القسم الشمالي من جزيرة العرب. والقسم الشمالي من جزيرة العرب لا يعني جوف جزيرة العرب، فضلًا عن أن يعني جنوبها. ولا جديد في القول بعلاقة شمالي الجزيرة- مما جاور (تيماء) فما يليها شمالًا- بالتاريخ التوراتي أو البابلي أو المِصْري.