محمد آل الشيخ
ما يقوله خطيب صلاة الجمعة من فوق منبره ليس مجرد وجهة نظر شخصية لك أن تقبلها أو ترفضها، ولكنها جزء لا يتجزأ، وأساس من شعيرة الصلاة، وبالتالي من قدسيتها، والإمام في المفهوم الإسلامي، مُتبع، لا تصح صلاة المصلين إلا باتباعه، والحذو حذوه، والاقتداء به، وفيها يكون المأموم كما هو مطلوب دينيًا منصتًا إنصاتًا تامًا، وهذا ما جعل المتأسلمون المسيسون، يستغلون هذه الخطبة وقدسيتها، في نشر أفكارهم، وترسيخ أيديولوجيتهم على أنها جزء من الإسلام، ومن خلالها ينفذون إلى قناعات المصلين ويفبركونها تبعًا لأيديولوجيتهم، واستعمال منبر المساجد كأداة دعاية حزبية لترويج بعض المفاهيم والأفكار وترسيخها في أذهان المصلين على اعتبار أن ما يدعون إليه جزء من المعلوم من الدين بالضرورة.. ومثل هذا التكتيك هو أسلوب تقليدي من أساليب جماعة الإخوان المسلمين منذ مؤسسها حسن البنا وجميع دعاة الجماعة في شتى أصقاع العالم، وحينما تفرع عنهم السلفيون المتأخونون - (أو كما تسمى الجماعة السرورية) - حذوا حذو الجماعة الأم ونهجوا منهجها، وكذلك ما تفرع من السروريين من حركات جهادية، مثل (القاعدة) أولاً و(داعش) ثانيًا؛ حتى أصبح الخطيب الذي لا يُسيس الخطبة، ويقصرها على ما نص عليه السلف في كتب الفقه الموروث إما (جامي) أو (مدخلي) كما يصفونهم. وغني عن القول إن هذه الحركات ابتداء من حركة جماعة الأخوان، وانتهاء بجماعة داعش، يرتبط اعضاؤها بعضهم بالبعض الآخر ارتباطًا تنظيميًا، يقوم على (السمع والطاعة) لما يصدره التنظيم من تعليمات وأوامر، لهذا يتفق المحللون، ومن يتتبعون ثقافة الإرهاب، ومن يرصدونها، أن منبر الجمعة هو أقوى السبل وأنجحها لتجييش الاتباع والمؤيدين، وتمرير فكرة ما وترسيخها في أذهانهم على أنها جزء من تعاليم الإسلام، لا يكتمل إيمان المرء إلا بممارستها فعليًا، أو على الأقل التسليم بصحتها وتأييدها، ودعمها جماهيريًا، وكراهية من يعارضونها وينتقدونها.
وقد كان المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- قد تنبه مبكرًا لخطورة توظيف خطبة الجمعة في الشؤون السياسية، حينما وصل إلى علمه أن خطيبًا في المسجد الحرام في مكة المكرمة حاول أن يُمرر أفكارًا مسيّسة في خطبة له من على منبر الحرم، فأرسل من الرياض برقية إلى وزيره المعروف «عبدالله بن سليمان» -رحمه الله- كلّفه فيها باستدعاء ذلك الخطيب، وتحذيره من التطرق في الخطبة لشؤون السياسة، وإلا فإنه سيقوم بعزله من الإمامة. والبرقية محفوظة ومعروفة، وقد كتبت عنها قبل عدة سنوات.
الخطباء المتأسلمون المسيسون يحتجون بالحرية، ويربطون خطب الجمعة بهذا المفهوم الذي يحظى عالميًا بمساندة التوجهات السياسية المعاصرة. غير أن هذا الربط يشوبه عوار واضح لا يمكن تجاوزه؛ فالمسجد ليس ملكًا للخطيب، ولا لحزب، ولا منصة لجماعة، وإنما هو منبر لبيت من بيوت الله جل وعلا، فلا يجوز للخطيب أن يستحوذ عليه ويجيره له، أو للجماعة التي ينتمي إليها، ثم يُسيسه، ويجعله (منصة دعائية) وترويجية لجماعة ذات أفكار وتوجهات سياسية معينة؛ وقد كانت المساجد قبل أن يحتكرها المتأسلمون المسيسون في الآونة الأخيرة، تقتصر خطب الجمعة فيها على التذكير والوعظ والحض على إفراد الله بالعبادة، وأداء العبادات، وكذلك الحث على مكارم الأخلاق والتكاتف المجتمعي، وكل ما من شأنه تجميع كلمة المسلمين، وترسيخ القيم السامية التي لا علاقة لها بالسياسة وخلافاتها ومماحكاتها، وتوجهاتها المختلفة، التي تفرق الشمل أكثر مما تؤلف القلوب وتلم شملها، وتجمعها على كلمة سواء.
ونحن اليوم في زمن يلف بنا الإرهاب المتأسلم من كل جانب، وغني عن القول إن الإرهاب خرج من تحت عباءة التحزبات الدينية المسيسة على مختلف أنواعها وتشكيلاتها، فالإسلام السياسي هو الرحم الذي أنتج الإرهاب في نهاية المطاف؛ والعالم أجمع من أقصاه إلى أقصاه يسعى بكل قواه إلى مكافحة هذا الشر المستطير، والفيروس القاتل الذي استعصى على أي علاج حتى الآن؛ وحيث إن المتأسلمين المسيسين، وبالذات الجهاديين منهم، قد جعلوا من منبر الجمعة منصة ترويجية للتأسلم السياسي والدعوة إلى العنف، تحت ذريعة الدعوة إلى الجهاد، فما أحوجنا اليوم إلى تطهير المساجد ومنابرها من هذه الآفة الخبيثة، وتحييد بيوت الله عن السياسة وتجاذباتها؛ ولن نعدم الأسباب لنصل إلى هذه الغاية النبيلة إذا صحت وصدقت النوايا.
إلى اللقاء