عبد الرحمن بن محمد السدحان
المحطة الأولى :
* الحياة .. صراط طويل من الانتصارات والانكسارات، ولست في هذا استثناء ولن أكون. مثلما أنني لست نادماً على شيء تمنيته ولم أدركه، فكل شيء يقدره الله تقديراً، ولا رادَّ له من ذلك إلا هو سبحانه!
* * *
* كنت أتمنى أن تدوم حياة سيدتي الوالدة فترة أطول من الزمن لأنعم بقربها حباً وحناناً ودفئاً إنسانياً، ولتشهد هي معي ما وهبني الخالق جل وعلا من نعم كثيرة ظاهرة وباطنة، والأهم من ذلك كله، كنت أتمنى أن تبقى إلى جانبي كي أنعم في ظلها الحنون بشيء من (شقاوة) طفولة الأمس بكل ما فيها من حب وفرح وعبث بريء، فقد كنت في حضورها (طفلاً) كبيراً وكأنني أحاول تعويض نفسي بعض ما فات من عمري غياباً عنها وحرماناً من حنانها الأسطوري! لكن رحيلها إلى بارئها العظيم قبل عقد ونصف من الزمان ما برح جرحاً يدمي وجداني رغم إيماني وتسليمي بما قدره الله رب العالمين!
* * *
* أما المكاسب التي أنعم الله بها علي عبر مسار حياتي الطويل فأحمد لله حمداً بليغاً أن بدّل عسري يسراً في العديد من المواقف، ومنحني القوة والثقة وثبات النفس كي أصمد أمام محن الزمان وتحدياته، كان آخرها داء عنيد أودعني تخصصي الرياض قبل عامين تقريباً لمدة تجاوزت قليلاً الأربعة أشهر، حتى منّ الله عليّ بالشفاء، وأعود إلى الحياة أو هي تعود إلي!
* * *
* كان أسمى ما في هذه التجربة رغم قسوتها أن رفيقة عمري زوجتي حفظها الله كانت معي لحظة بلحظة خلال أشهر الأزمة، وكانت خلالها تغَدق علي محاسن إنسانيتها بسخاء : حباً وحناناً وخدمةً ودعاء، وكانت شُجاعةً كالأبطال وسط إعصار الأزمة، فلم يضعفها الدمع الخفيّ ولا الحزن الصامت، ولم يصادر منها الخوفُ من الغد المجهول الإيمانَ بالله والرجاء منه فـي الوصول إلى نهاية سعيدة!
* * *
المحطة الثانية :
* سئلت ذات مرة : ماذا علمتني تجربة الفلاَّح عبدالرحمن (طفلاً) ابن السبعة أعوام فـي مزرعة جده لأمه رحمهما الله، قبل أكثر من خمسة عقود، ثم العيش بعد ذلك بوقت طويل مبتعثاً فـي الولايات المتحدة الأمريكية لمدة تجاوزت الست سنوات ؟ فقلت إن لكل من التجربتين بصمةً بليغةً في حياتي، ومنحتني كل منهما الكثير مما لم أكتشفه ضمن سياق حياتي إلاّ في مرحلة لاحقة.
* * *
* تعلمت منهما الصبرَ والجَلدَ طمعاً فيما هو أفضل، وتعلمت منهما (مهارة) الاستمتاع حد الرضا بالقليل من الزاد والكساء، لأن (الحلول) البديلة لإشباع الحاجة منهما كانت متعذرة زماناً ومكاناً ومورداً!
* * *
* ثم أدركت وأنا طالب فـي أمريكا خلال عقد الستينات ميلادي فوائد اصطحاب الأغنام وحيداً كل يوم إلى المراعي المجاورة لمنزل جدي رحمه الله، منذ أن تفتح الشمس جفنيها صباحاً حتى توشك أن تغلقهما مساءً!
* * *
* كان في مقدمة تلك الفوائد نعمة الانفراد بالذات بعيداً عن الزحام، و(الحوار) معها عن أمور بعضها مؤنس للذات، وبعضها الآخر مؤرق، ثم نعمة التفاؤل بما هو آت، وأنه مهما اشتدّ الحال على امرئً عسراً، فإن اليُسْر من عند الله قريب!
* * *
* ولذا، قررت وأنا طالب فـي الجامعة بمدينة لوس انجلوس المذهلة بكل مباهج الدنيا وملذاتها أن (أهجر) اثنيْن من أعز الرفاق السعوديين كنت أقاسمهما العيشَ بمسكن واحد فـي واحد من أرقى أحياء تلك المدينة، وأن اصطفي العيشَ وحيداً فـي (شقة) متواضعة من بقايا أطلال القرن الماضي، قيمتها الحقيقية أنها كانت مجاورة للجامعة، أبلغها سيراً على الأقدام كل يوم، لأنقذ نفسي بذلك من أرق حافلات النقل العام، والتعرض بسببه لحفنة من المخاطر البشرية والآلية، خاصة تلك التي يزخر بها الحي المجاور للجامعة (الواتس)!
* * *
* نعم .. تعبت راعياً للأغنام وساقياً للزرع في صدر طفولتي، لأجنيَ ثمار هذه التجربة فـي أمريكا دارساً، وكان من أمري بعد ذلك ما كان!