عبدالعزيز القاضي
أنا ما همني فالوقت لا مطلق ولا مستور
مركبها على قمة جبل وتهز رجليها
- عبدالله المسعودي
قدمت في الحلقة الماضية تعريفا موجزا ومركزا بشاعر المحاورة الشهير عبدالله المسعودي, واليوم أواصل الحديث عن شاعريته في المحاورة تحديدا.
لقد كان المسعودي -رحمه الله- شاعر محاورة في المقام الأول, وفي فن المحاورة تظهر قدرات الشعراء ويبدو تفاوتهم في سرعة البديهة وشدة العارضة, والقدرة على فتل المعاني ونقضها, كما تظهر البراعة في التلغيز وتعمية المعنى, ومحاولة تفكيك وفهم معاني الخصوم.
وقد شهد للمسعودي بموهبته في المحاورة كثير من زملائه.. يقول المرحوم صياف الحربي في أحد اللقاءات عن بداية معرفته به: «كنت متوجهاً إلى مدينة جدة واستوقفني حفل اجتمع فيه مطلق الثبيتي، ومبروك أبو ناب، ومحمد ابن تويم، والسواط، والعصيمي، والمسعودي، وكان المسعودي (ضاغط) على أبو ناب, فنزلت فازعا له, فأجابني المسعودي على بيتي ثم غير القاف، وأتى ببيت واحد فقط، وأجبته دون أن أنتبه لما كان بداخله، فصاح بي السواط محاولاً تنبيهي إلى خطئي، وعندما عدلت بيتي لم يعرني انتباهه واكتفى بالابتسام.
وإذا كانت المحاورة تعتمد على بعض المقومات الشخصية كسرعة البديهة, وشدة العارضة وقوة التحدي, ودقة التلغيز, فإن هذه المقومات جميعا كان لها حضور واضح في شخصية المسعودي, فمن سرعة بديهته رده على محمد بن تويم الثبيتي وهو يلاعبه في ديار جماعته (الثبتة)، عندما قال:
ترى هذي الديره يسمونها أم سباع
وفيها سباع تاكل الذيب سرحاني
وقبل هذا البيت، بيت ذكر الدكتور سعود أبوتاكي في كتابه (شاعر هذيل) أنه فاته ذكره, وتبعه في هذا الفوات كل من أورد المحاورة بعده. قال المسعودي في الرد:
ترى يالعتيبي ماش طمعه ورا طماع
ولو كل واحد قال أنا أحسن من الثاني
وأنا جيتها فالصيف ما جيت فالمرباع
وش اتقول جيت السبع والسبع ما جاني
وقوله (جيتها فالصيف ما جيت فالمرباع) يعبر عن استهانة مثيرة بالتهديد, لأن السباع في الصيف تكون أشد ضراوة وجوعا وإقداما.. وللمسعودي لغز طرحه في إحدى محاوراته, فقال:
أنشدك عن بنت إليا منك دخلت بنصها
تحماك من تسعين متسلح وتسعين أعزلي
تثنت الأرماح عنها والمقص يقصها
أكبر من الناقة وأقل شوي من راس الطلي
فتحير الشعراء قبل الجمهور, ولم يتوصلوا إلى معرفة المقصود, فلما سألوه أخبرهم أنها الناموسية.
وفي إحدى المحاورات قال مطلق:
بغيتك تسافر يم لندن شتا وإلا ربيع
وخابرك ما تسلى جبال تصيح قرودها
ترى اللي سواتك يطعم العلم لا بده يطيع
إليا شاف هرجتها تساوت على بارودها
فقال المسعودي:
له أيام والكبسون تقرع على جنبه قريع
يبا يستحل بلاد صنعا بكثر زيودها
أنا عارف إن السمن طيب ولكنه يميع
يدين تغمس فيه بيسيل فوق زنودها
والكبسون نوع من البنادق, وإذا كان المعنى هنا له تفسير واحد بين الشاعرين فإن له ألف تفسير عند الجمهور, والبيت الثاني من رد المسعودي تجلت فيه قدرته الفريدة على إطلاق (التوضيح المعمّى) -إن صح التعبير- بطريقة ضرب المثل, وهي سمة بارزة في محاوراته, والشعر الذي تضيع في دروبه المتداخلة خيوط المعنى هو الشعر الباهر.
وبيت السياحة أعلاه من محاورة جميلة بين المسعودي وبين مطلق الثبيتي -رحمه الله- وهو توأمه في التفوق في المحاورة إن صح التعبير (ت 1416هـ).
وأبيات التحدي التي تعلق في الذاكرة بعد المحاورات كثيرا ما تكون ظالمة مضللة لأنها تلغي ردود الخصم التي قد تكون قوية ومقنعة, وربما كانت كفته هي الأرجح في مجمل المحاورة, لكن جمال بعض الأبيات يلغي كل جمال آخر, وهذه هي جناية سطوة الأبيات المفعمة بالتحدي إذا اكتست بجمال الصياغة.
وعاد إلى منزله ذات يوم فوجد بطاقة دعوة مكتوبا فيها (الدرب شام) وهي جملة معناها إعلان التحدي, فذهب إلى الحفل ووجد عددا من كبار الشعراء , فأنشد:
سلام / ردية عجل / وابطوا عليّه لين اشوف
بين الصفوف / لكل جمع الحاضرين / أثني سلام
الشام / مالي فيه أهل / وأنا ليا جيت امعروف
ياهل الزروف / اللي عليها كاتبين / الدرب شام
فلم يستطع أن يرد أحد من الشعراء الحاضرين. قلت: أما تعداد القوافي فلا شك في أنه مؤشر على قدرة نظمية لكنها قلما تصل إلى (الشعرية), والتعجيز بتعداد القوافي يؤدي في الغالب إلى التكلف والتكلف عدو الإبداع, ولا يعني بالضرورة التفوق في المحاورة, لأن التفوق لا يكون إلا في (الفتل والنقض) فقط, وأظن أن الوسيمة الصعبة المكبلة بالأقفال والقيود المتعددة غالبا ما تكون معدة سلفا وغالبا ما تنتهي بها المحاورة.