د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم نشأْ تصديقَ شيوخنا حين حذرونا من روايات «جرجي زيدان» حول تأريخ الإسلام؛ فقد استمتعنا بحكاياته الممالئةِ لأعمارنا حينها، وراقت لنا «حدوثاتُ» الحب الشقيةُ الخفيةُ التي تهوِي بأبطالها فتتبادل القيعان والذرى مواقعَهما، وأعجبَنا أن تصبحَ الأساطير العاطفيةُ محركاتٍ عقلية؛ فيستيقظ السلطويُّ ليستدرك ما بقي من نظامه الهش، ثم نمضي في لهونا لتفتش مخيلاتُنا عن أعاجيب جديدة.
** وتحفَّز من شاء أن يجد في رحلات «ابن بطوطة» ما يلهمه تكريسَ نظرية التجسيد عند كبير سلفيي أهل السنة والجماعة ليقينه أن الناس منشغلون عن التدقيق والتوثيق، ولا بأس أن يدعيَ غيرُه استباحة المدينة النبوية وضربَ الكعبة بالمنجنيق؛ فلن يُطالَبوا بإثباتاتٍ ولن يسعَى المتلقون إلى الرأي المقابل ؛فمادام الأمر يستحق عنواناً بارزاً فلم الوقوفُ عند العناوين الهادئة؟!
** وفي زمننا يكفي أن تتضامن «الشلةُ» لتقود حملةً مساندة لرمزها السياسي والإعلامي والمجتمعي؛فالصوتُ الأعلى يُسمع جيدًا،ولو أقسم ذوو الأصوات الخافتة أن الحقيقة غيرُ ما يفترون، مؤمنين بنظرية أن تكون مع الأكثرية ولو ظالمًا خيرٌ من أن تكون مع القلة،وبسلبية واسستسلام رافضي التضليل تُسجل الأهدافُ الحاسمة في مراميهم.
** بُحت أصواتٌ أعلنت عداءَها المبدئي لمن تسموا سادة المقاومة ،وصَدئت كلماتٌ تبرأت من مدنسي سيدة الطهر أمنا عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ومقدسي مجرم المجوس أبي لؤلؤة ، ولانتهازيةٍ ظرْفيةٍ اعتادوا التزيَّ بها ركب المناوئون المركبَ نفسه الذي سبق أن وصموا أهله بالتخلف والتعصب، وقريبًا ينكفئون عنهم حين تتغير المعادلة، وكذا ينخدع التأريخ ويزِلُّ المؤرخون.
** الأمثلة بالمئات ؛ فمن يحاصره الفراغ من جهاته الأربع فإنه لا يرى إلا فراغًا ويظن الكون فارغًا والناسَ حوله فارغين، والذي يعتقد أن الحياة ملأى بالشر، والشخوصَ الممثلين لرموزها شريرون فإنما يعكس السوء الذي يسكن داخله، وحين يحرك بعضَنا هاجسُ التطهر المبالِغ فيطرحون النزاهة شعارًا لهم فلعلهم يدارون سوءاتٍ خبروها في ذواتهم أو ذويهم، وبالمثل؛ فالمبالغةُ في المدح أو القدح تعكس نفوسًا حائرةً تتردد بين الحقيقة والمصلحة، وتقلب الأبيضَ أسودَ والأسود أبيضَ كي تظلَّ في واجهة الصورةِ المرئية أو الحضور الوجاهيّ أو الارتزاق النفعي.
** وبعيدًا عن الإشارة إلى المعينين فإن الخطاب الديماغوجي المضلِّل يسود الوسط العام والعامي لسقوط اللغة في منزلق النخب المطفأَة أو المنطفئة بتصفيق حاد يبدو أقرب إلى تصفية الحسابات مع معارضيهم أو خلق جوٍ تائهٍ لا يميز صادقُه من كاذبه وعميقُه من ضحله ومخلصُه من لصِّه.
** باتت المقدماتُ متماثلة والخواتمُ متشابهة والميدانُ مشرعًا، ولا أحد يشهد على نفسه بل لنفسه من غير أن ترتسم علاماتُ المراجعة أو التراجع مهما ازداد التكاذب أو تضاعفت المعاناةُ أو صارت للدموع مواسمُ وللدماء احتفالات.
** الكذبُ وَدودٌ ولود.