د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
**أجرت محطة لبنانية مرئية اختبارًا إملائيًا في اللغة العربية لعدد من الوزراء ؛ وصححوا نتائجهم فاستحق أفضلُهم 14 من 20 ولم ينلْ أسوأُهم سوى درجتين، وكانت خطوةً لافتةً ومعبرةً عن أزمةٍ في إتقان اللغة بين الفئةِ الأعلى، ورأى صاحبكم ثلاثة أخطاءٍ في تغريدة لم تتجاوز مئةً وأربعين حرفًا لأستاذ جامعي متخصص في الأدب والنقد؛ فلا يُساءلُ الكبارُ ولا يُلام الناشئة.
** لن يجرؤَ مذيعونا على عملٍ مشابهٍ لهذا الاختبار؛ فمن هو الوزيرُ الذي سيقبلُ أن يختبره إذاعيون اعتادوا منهم على أدوارٍ هشةٍ يتمثلونها ولا تتجاوز سؤالًا عن إنجازٍ أو مشاعر؟ ومن منهم سيرضى أن يُرى مخفقًا أمام الناس فيصبح مجالًا للتندر عبر وسمٍ رقميٍّ يبحث عن الزلات ويتجاوز الحسنات ؟ وأنَّى أن تشرق ابتساماتهم كما فعل الوزراء اللبنانيون الذين بدَوا طلبةً صغارًا أمام معلمةٍ مهيبة.
** ليت المذيعة ساءلتهم عن الإملاءات كما سألتهم عن الإملاء؛ فالإخفاقات - في الأعم- لا تأتي فرادى، واللغة هُويةٌ لا شكل، والاحتفاء بها يومًا في العام تذكيرٌ بغيابها عن المنابر والمنائر، ومثلما يخفق أساتيذُ اللغة العربية فإن خطباء الجمعة والكتبةَ والإعلاميين ليسوا أحسن حالًا ، والتعميمُ لا ينفي وجود القادرين كما لا يمنع التفاؤلَ بالقادمين.
** الإملاءُ مسارُ رسمٍ لكن الإملاءات مساراتُ حياة، والإخفاق فيهما يحول دون التفرد والتعدد ؛فلا يبدو أثر العلم ولا استقلالية الشخصية ولا التنوع الجمعي، ويسير الركبانُ باستنساخ المنقول وإيماءاتِ القائد والحزب والقبيلة والطائفة؛ فلا يشفي تعميمٌ أو تعليم.
**التفريط باللغة إضاعةٌ للبيان ، والعبثُ بالانتماء تيهٌ في العنوان، وبينهما تموت المعاني كما المباني،وربما جاز لنا أن نحلم بتدريس جمال الإملاء بجانب خطر الإملاءات التي تبعثر الذات وتشوه الصفات.
**اللغة لا تنفصل عن المواقف،فكما يقود الإصرارُ على التأصيل إلى المحافظة على تاج اللغة العليِّ والنأي عن التصحيف فإن المواقف الصلبة المبرأة من الإملاءات تتيح للأمة انتهاج خطوطٍ ذاتيةِ البدء والمختتم تنقذها من التبعية والاستلاب ، وهنا تميزُ اللغة من اللغو، فالداعون إلى الفوضى النحوية والإملائية حكاؤون،والمتماهون مع المشروعات الاستسلامية عاجزون، ولم تُبتلَ الأمةُ اليوم بأقسى من الهذر والهدر.
** بؤسُ اللغة يمتد وسيءُ اللغو يحتد؛ فأين نرى أنفسَنا في قادم الأيام ؟ وهل قدرُنا لهجاتٌ هجينة لا تعترف بقواعد النحو والإملاء، ومواقفُ خانعة خاضعة لا تحافظ على الانتماء؟ وماذا عن التدني «المعنوي» في لغة الخطاب الرقمي والورقي والمنبري بجانب التدني الشكلي؟
** شبابنا أو أكثرُهم منتهبٌ لضعف اللغة وسيطرة اللغو، ومسايرتُه من الرموز متاجرة ؛ فالأرضُ الواهية والفضاءات الهائمة لا تُقلُّ ولا تُظل،ومستشرفو الآتي يخشون على الجيل الجديد من إملاءات السياسة والأدلجة والولاءات التي تعزز الهمزَ ولا تعنيها الهمَزات.
**المحكيُّ صورةُ الحاكي.