أ.د. حمد بن ناصر الدخيِّل
يعلم الصديق الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيِّع مدى حرصي على أي معلومة تاريخية تتعلق بالمجمعة والفشخاء، أو منطقة سدير عامة. وفي إحدى مهاتفاتي معه ذكر لي أنه عثر على معلومة عن الفشخاء وجدها في مذكرات السفير الشيخ محمد بن عبدالرحمن العبيكان -رحمه الله- وأوجز لي ما كتبه. فرغبت إليه أن يصور الصفحة التي تتضمن المعلومة أو ينقلها كما دونت.
وفي مأدبة إخوانية دعانا إليها الأستاذ الأخ محمد بن سعود الحمد، أحضر أبو هشام ورقة مكتوبة بخطه ووضعها في ظرف لنفاستها خشية من أن تفلت. فيها ما كتبه السفير العبيكان عن الفشخاء، وبعض ما كتبه عن المجمعة، وجرى الحديث عن الفشخاء وبعض أحداثها التاريخية، فأخبرنا الأخ محمد بن سعود الحمد أن المذكرات منشورة، وذكر المكتبة التي تبيعها، وكَرُمَ فأضاف قائلاً: سأحضر لكل واحدٍ منكما نسخة، ووفى بوعده مشكوراً بعد يوم من اللقاء، فبعث بنسختين مع سائقه إلى المنزل. ورأيت أن المذكرات نشرت منذ نحو ست سنوات، وتتكون من مئة وتسعين صفحة، جمعها وأعدها ابنه خالد، ووضع لها عنوان (محمد العبيكان من تجارة اللؤلؤ إلى السلك الدبلوماسي)، وطبعت في مطابع دار الهلال للأوفست في الرياض.
والدبلوماسي الشيخ محمد بن عبدالرحمن العبيكان الذي زار المجمعة، ومكث فيها مدة، ولد في الرياض في 15-7-1317هـ الموافق 18-11-1899م، وهذا اليوم يوافق يوم سبت، وتلقى تعليمه في كتاتيب دخنة، وأمضى مدة صباه متنقلاً بين الأحساء والجبيل والبحرين والقطيف والرياض في أحداث تتعلق بأسرته وبالتجارة ألم بها في مذكراته. وهذه السفرات رغبته في مزاولة التجارة، وكانت أول صفقة تجارية قام بها أن والده بعثه إلى البحرين ومعه مئة تنكة من السمن البلدي الجيد لبيعها هناك، ثم مارس التجارة في الأرز والأقمشة واللؤلؤ، وسافر متاجراً إلى الهند، ومسقط، وسقطرة في بحر العرب، وميناء مصوع في شمال أريترية، وأسمرة، واتصل بالملك عبدالعزيز عام 1351هـ وقابله، وقابل الأمير سعود والأمير فيصل (الملكين فيما بعد)، وفي 17-10-1354هـ عين أميراً في بيشة حتى 26-2-1357هـ، ثم اشترك مع لجنة البعثات الدبلوماسية في مصر ولبنان وسورية, وعين عضواً في مجلس الشورى في 23-2-1375هـ، فوزيراً مفوضاً في اليمن في 8-11-1376هـ، ومكث فيها أربع سنوات، واتصل عمله الدبلوماسي بتعيينه سفيراً مفوضاً ومندوباً فوق العادة في السودان عام 1381هـ أيام إبراهيم عبود، وإسماعيل الأزهري، وبقي في عمله حتى مطلع عام 1388هـ. وبعد هذه الجولة الدبلوماسية طلب إحالته للتقاعد، وتفرغ للرحلات الترفيهية والاستطلاعية إلى أوروبا وإفريقية والهند، والولايات المتحدة.. توفي -رحمه الله- في 20-8-1413هـ.
استفدت هذه المعلومات عن حياته التجارية والدبلوماسية من مذكراته التي أعدها ابنه خالد. ولا أعلم إذا كانت وزارة الخارجية تدون سير دبلوماسييها وسفرائها وممثليها في الخارج في كتب منشورة.. فطوال عملي أستاذاً للغة العربية الذي امتد أحد عشر عاماً في معهد الدراسات الدبلوماسية التابع للوزارة لم أر شيئاً من هذا. وحري بالخارجية أن تتبنى هذا المشروع التوثيقي، وتسعى إلى تنفيذه، وسيكون له أثر في إبراز حلقات غائبة من جهود الوزارة في العمل الدبلوماسي والتمثيل السياسي إذا خرج إلى الوجود.
أما سبب ذهابه إلى المجمعة فذكر أنه سافر إلى البحرين فتبضع منها بزًّا وخاماً، وتوجه إلى الجبيل، وصادفت بضاعته فيها سوقاً رديئة وكساداً شديداً فحزن واغتم، فأشار عليه عمه عبدالله بن ناصر العبيكان بأن يسافر ببضاعته إلى بلدة المجمعة في نجد. ويحدثنا عن هذه الرحلة التي قام بها حوالي عام 1340هـ بقوله تحت عنوان (سفري إلى المجمعة): «أخذت بضاعتي وحملتها معي إلى المجمعة بعد أن اشتريت لي ذلولاً، وصبحت رفقة من البدو من هجرة (مبايض)، وكان الركب من البدو المتزمتين الذين يرون الحضَرَ على غير هدى في الدين، فكانوا يعاملونني معاملة سيئة، رغم أنهم لم يشهدوا شيئاً يشينني، وكنت مواظباً على الصلاة معهم، ومع ذلك كانوا ينظرون إليّ نظرة لا تدعو إلى الارتياح، سوى واحد منهم وزوجته الذي استأجرت منه بعض الجمال لحمل بضاعتي. وبعد وصولنا إلى المجمعة كنت على علم بأحد رجالها الكرام، وهو دهش العثمان التويجري وكانت سمعته قد وصلتنيِ وأنا في الجبيل فقصدته بقصد الضيافة، فوجدت فيه أكثر مما سمعت عنه، كما وجدت أهل بلدة المجمعة من خير أهل بلدان نجد في كرم الضيافة وإكرام الغرباء. وبلدة المجمعة في ذلك الحين من أفضل بلاد نجد عموماً، وهي بلاد طيبة الهواء، ولكنها في تلك الأيام غير موفورة الماء؛ لأنها كانت سنة جدب، وكان السكان يرتوون من خارج البلد من بير يسمونها (الفشخا)، وبها كثير من النخيل والبساتين، ويتعاطى رجالها الفلاحة والتجارة في المواد المحلية والأسلحة والأطعمة، وما يحتاج إليه أهل القرى من حولهم، وما تتطلبه حياة البدو. وفي المجمعة كثير من طلبة العلم، ويسكنها كثير من القبائل العربية المتحضرة من عنزة وتميم، ومن غير هاتين القبيلتين.
كان مجالس أهل المجمعة المعدة للضيف حسنة الترتيب والتنسيق، وكانت أدوات القهوة تبدو لطيفة، ولهم عناية بعمل القهوة وإعطائها النكهة الجذابة المحببة، وغالباً ما تكون أبواب المجالس خارج المنازل، وأكثر تلك المجالس في الدور العلوي من الدار، وتسمى مجالس القهوة في عموم نجد (الروشن)، والروشن كلمة فارسية انتقلت إلى وسط الجزيرة ضمن كلمات وأوصاف أخرى. أمضيت هناك قرابة شهر وبضاعتي كاسدة، لم يقبل أحد على شرائها، ليس لردائتها وإنما لرداءة القوة الشرائية وتدني السوق، وربما كان ذلك بسبب جشع التجار عندما رأوا أني غريب وحريص على بيع بضاعتي، وعلى كل فقد بعت بضاعتي وتخلصت منها في النهاية، حيث بعتها بثمن أقل مما دفعته فيها، وتعوضت بالله، ولعل لذلك عدة أسباب من أهمها أنني شعرت بالحرج الشديد أمام مضيفي، فقد أنزلني في بيته، ولم يكن لديه غرفة أنام بها، فكان أهل الدار يذهبون بي في الليل بعد صلاة العشاء كل يوم إلى بيت صغير يبعد عن بيتهم الأصلي، وهو بيت قديم ومظلم ومكون من دورين، فإذا دخلت فيه قاموا بإغلاقه خلفي، وكنت أشعر فيه بالضيق، فإذا طلعت إلى الدور الثاني منه خيّل إليّ أن هناك أشباحاً تراقبني، وذات ليلة حاولت أن أتعرف على تلك الأشباح فتقدمت إليها فإذا هي (غروب) السقي وهي الدلاء الكبيرة التي تسحبها الحمير من الآبار للسقيا، وقد عُلقت على أوتاد في الحائط، وإذا نظرتُ إليها خيل لي أن أحداً يتطلع إليّّ من الأبواب. والحقيقة أنني شعرت بوحشة لا مثيل لها، وقد طلبت من مضيفي أن يتركني أنام في المسجد، ولكنه لم يوافق على ذلك، فإذا جاء قبيل أذان الفجر حضر أحد أبنائه ومعه ماء للوضوء ثم فتح الباب وأيقظني من النوم. فرغبت بالعودة إلى بلدي بأسرع وقت، وبعد مضي شهر بعت البضاعة، واشتريت بدلاً منها بضاعة أخرى فشك (طلقات بندقية) واستأجرت جملاً لحمل البضاعة عليه، وركبت ذلولي التي بقيت عندي أصرف عليها، وسببت لي متاعب كثيرة، وكان ذلك حوالي عام 1340هـ، وسرت في الطريق ومعي صاحب الجمل الذي استأجرته لحمل بضاعتي، واستغرقت مسافة الطريق نحواً من خمسة أيام بين المجمعة والرياض، وعند دخولي الرياض توجهت لدار ضيافة الإمام عبدالرحمن وسلمت عليه، وأمر بإنزالي في الضيافة، ولكنني اعتذرت منه وذكرت له -رحمه الله- بأن جدتي وأخوالي من آل سويلم موجودون هنا في الرياض فوافق على سكناي عندهم».
حين تلقيت الخبر عن الفشخاء عجبت كيف عرف هذه القرية الصغيرة الراقدة في أحضان النخيل، وهو البعيد عنها سكناً ورحلة، وزال العجب حين عرفت الخبر مفصلاً مرتبطاً بتصريف تجارته. وقد كان لرحلات التجار في العهود القديمة أثر لا يقل عن رحلات الهواة والمحترفين في التعريف بالبلدان التي ألموا بها وعادات الشعوب، ونشر الإسلام، لو أتيح لجميع رحلاتهم أن تدون وتنشر.
والبئر التي عناها الرحالة السفير، وذكر أنها تمد المجمعة بالماء العذب حين تنضب آبارها لا تزال موجودة في الفشخاء، بل إن القرية سميت باسمها، وهي بئر واسعة جداً لها فرغان شمالي وجنوبي، تسقي مساحة كبيرة من النخيل، أيام السواني، ثم زمن المواطير، ثم مكائن البلاكستون Black Stone، إلى وقت الغطاسات، وماؤها عذب خفيف على المعدة، كنت أرى نساء القرية يجلبنه إلى بيوتهن في قدور نحاسية، وقد شاهدت السواني في طفولتي تنزع منها الماء من فرغيها.
في أثناء تحرير هذه المقالة اتصلت بابن حفيد الشيخ دهش الذي استقبل الشيخ التاجر محمد العبيكان، وأضافه الأستاذ خالد بن عبدالله بن محمد بن دهش بن عثمان التويجري، وطلبت منه أن يمدني بما يعرفه من معلومات عن جده الأعلى، فأفضل مع والده عبدالله مشكورين مأجورين بتزويدي بلمحات من سيرة جدهم، وما كان له من صلات مع بعض كبار الشخصيات في زمنه، أثبتها هنا مع شيء يسير من الإضافات، وتصرف في الصياغة.
هو دهش بن عثمان بن دهش بن عثمان بن دهش التويجري، ولد نحو عام 1280هـ في المجمعة، ويعد من كبار وجهائها، ومن تجارها المشهورين مع أخيه أحمد (1275 - 1358هـ)، وتعدت تجارته وسمعته نطاق بلده، فكانت له صلات ومراسلات مع بعض التجار في الزبير والكويت والجبيل ومسقط والأحساء، وكانت له علاقة وثقى بالملك عبدالعزيز أيام توحيد المملكة، وكان الملك المؤسس يستعين به في بعض أمره، أمدني الأستاذ خالد بصورة خطاب مؤرخ بتاريخ 25-8-1343هـ من الملك عبدالعزيز يطلب منه أن يقرضه أربعمائة ليرة، ويسلمها إلى صالح بن عبدالواحد. كما كانت له علاقة بالشيخ مبارك الصباح (ت 1334هـ) حاكم الكويت آنذاك، زودني الأخ خالد بصورة ورقة مرور قصيرة من مبارك، هذا نصها بحروفها (إلى من يرا دهش طارفت لنا أو رايح النجد لأجل لوازمنا لا أحد يتعرضه 14 ربيع أول 1326 مبارك الصباح). فوق الاسم توقيعه، وتحته ختمه.
وعُرف بعطفه على الفقراء والمحتاجين من أبناء بلدته، فكان في كل خميس -مثلاً- يوزع كمية من البيزات على من يراه فقيراً محتاجاً. وكانت عملة البيزة دارجة في نجد آنذاك، وكانت تضرب في مسقط من النحاس، وأدركتها في طفولتي زمن انحسارها.
هذه الأعمال والمكارم أكسبته سمعة طيبة وذكراً حميداً في بلدته وفي جميع البلدان التي اتصل بها وعرف فيها.. حين استضاف التاجر محمد العبيكان كان يسكن في حي الحوش، وهو من الأحياء القديمة في المجمعة، بل أقدم حيِّ فيها، ويقع شرقي سوق البلدة القديم الذي رمم على طرازه الأول، وكان ينزل فيه عدد من الأسر الكريمة، منهم أمراء المجمعة قبل توحيد المملكة.
انتقل دهش إلى بريدة في آخر سنوات حياته، ومني بفقدان البصر، وحج من بريدة عام 1353هـ، وأصيب بمرض في مكة، وفي أثناء عودته من الحج تضاعف مرضه، وتوفي بالقرب من ضرية في شهر محرم عام 1354هـ، ودفن هناك -رحمه الله-.. ولدى حفيده عبدالله بن محمد بن دهش معلومات عنه أكثر مما ذكرت.
وابنه الذي كان يحضر ماء الوضوء قبيل أذان الفجر هو محمد بن دهش، وقد عاش سناً عالية تجاوزت مئة عام، وتوفي في 21-6-1412هـ، ويعد من المعمرين في المجمعة، وأقدر ولادته عام 1310هـ، وذكر الأستاذ عبدالكريم بن حمد الحقيل في كتابه (المجمعة) أن عمره حين توفي مئة وعشر سنوات.
وكان بودي أن الشيخ العبيكان أسهب في وصف المجمعة، وتحدث عن أحيائها وسوقها وأشهر رجالاتها، وعدد سكانها التقريبي، والتعليم فيها، وليته زار الفشخاء وقدم لمحات عنها.. ولكنه كان -آنذاك- تاجراً يهمه في المقام الأول بيع بضاعته التي ضاق بها ذرعاً، ولم يجد لها سوقاً رائجة، فقد كانت السنة مجدبة، وأحوال الناس ضعيفة، وحركة الإخوان على أشدها.