قاسم حول
يستضف مهرجان الرباط لسينما المؤلف في المغرب بدءاً من السبت الثلاثين من يناير 2016 أفلام المخرج السينمائي الراحل «بيير باولو بازوليني» وذلك ضمن برنامج «بانوراما» الذي سوف يقدم بشكل متواز مع الأفلام المشاركة في المهرجان في المسابقة وخارجها.
بالتأكيد سوف تضفي هذه البانوراما وأفلام الإيطالي «بازوليني» على المهرجان أهمية استثنائية لما تحتويه تلك الأفلام من أهمية، تمثل مراحل تطور هذا المخرج ليس في جانبها الفني بل أيضاً في الجوانب الفكرية لهذا المخرج الذي لا تزال دوائر القضاة في إيطاليا منذ الثاني من نوفمبر 1975 تاريخ جريمة قتله من قبل منظمة الفاشست الإيطالية وحتى الآن لم تحسم أمر القاتل، فيما كانت الجريمة في منتهى الوضوح! حيث تم قتله بعد أن أخرج فيلم «سادوم» الذي جسد فيه سلوك وسيكولوجية الفاشست الإيطاليين ومحللا سلوكهم «السادي».
كنت التقيت «بازوليني» في بيروت عندما دعيناه لحضور عروض أفلامه في نادي بيروت السينمائي، وأجريت معه مقابلة وساعدته في الحصول على موافقة من السلطات اليمنية في بداية السبعينات كي يصور بعض مشاهد فيلمه «ألف ليلة وليلة» بعد أن أعجب بشكل طراز البناء القديم في حضرموت والتي كنت صورتها وعرضت الصور عليه فاندهش لتطابق طراز البناء، مع أفكار أساطير ألف ليلة وليلة. كان ذلك عام 1972
بعد إخراجه فيلم «سادوم» الذي سبب في قتله بطريقة وصفها صديقه المخرج السينمائي الكبير «فيلليني» بأنها ميتة «درامية» تشبه ما يحصل في السينما، حيث قتل في مكان قريب من المناطق التي يسكنها الغجر فأنزل من السيارة وباشر القاتل بعد أن قتله في التلذذ «سادياً» بالجريمة بأن يروح ويجيء بسيارته فوق جسده حتى ساواه بالأرض وعاد نشواناً!
خاف الغجر من الجريمة خشية أن تتهمهم السلطات الإيطالية فقد غادروا المنطقة وهم في ترحالهم أضفوا غموضا على الجريمة!
بالتأكيد سوف يتم عرض الفيلم «سادوم» الذي أدَّى إلى رحيل هذا المخرج العبقري الذي شغل بأفكاره وفلسفته العالم السينمائي.
كان «بازوليني» ليس فقط ضحية قوى فاشية تريد أن تخرب الحياة بل هو ضحية ظلم العالم، حيث بعد الحقبة الموسولينية والحرب العالمية الثانية وتدهور اقتصاد إيطاليا وتفكك العلاقات الاجتماعية، كان هو غريب عائليا في حياته الاجتماعية.
كان في بداية حياته قد اعتنق الفكر الماركسي، ثم أحس بميكانيكية الفكر المادي، في مرحلة تيار الشيوعية في إيطاليا، فقرأ «فرويد» وأعجب بأفكاره، لكنه تجاوزه، وأصبح بازوليني هو نفسه بازوليني! بعيداً عن التأثيرات الفكرية والفلسفية.
تنقل بازوليني بين الواقعية الإيطالية في السينما وبين الواقعية الجديدة، ثم تجاوزها إلى البازولينية. سألته في حواراتنا معه في بيروت.. لمن تعمل أفلامك؟
قال لي «أعمل أفلامي لمشاهد اسمه بازوليني»!
هو لا يتنازل عن أفكاره ونظرته السينمائية. فهو في وضوحه الفكري والفني يريد أن يرتقي بالمتلقي إلى مستواه وهو الشاعر والروائي والقاص والفيلسوف. هو لا يتنازل عن وضوح الرؤية حتى يجعل المتلقي في مستواه، لأن التنازل عن القيمة الجمالية من وجهة نظر إجابته هو تنازل وتسطيح للعملية الثقافية.
هي فرصة لجمهور المغرب كي يشاهد الأعمال الكلاسيكية والمتسمة في الحداثة منذ «ماما روما» وحتى «سادوم».. فرصة كي يشاهد جمهور المغرب هذا المخرج الذي لم يتمكن القضاء الإيطالي من كشف القاتل وكشف أبعاد الجريمة فعطلوا إنجازه وهو في عمر ثلاثة وخمسين عاما، كان لا يزال عبقري السينما هذا لو لم يقتل لأنجز الكثير من الأفكار وحقق للسينما ما يطلق عليها المعجزات السينمائية في الشكل والمضمون.
«بيير باولو بازوليني» بقدر ما كان «أممياً» في السينما كان «إيطالياً» فيها فإنَّ عالميته القياسية التي يطلق عليها العالمية، لأنّها قياسية في معرفة واستخدام مفردات لغة التعبير السينمائية، كان إيطاليا أولا فأصبح بإيطاليته عالميا بالضرورة!
عندما شاهدت وإياه فيلمه «ميديا» في صالة سينما بيروت، بعد عشر دقائق من عرض الفيلم غادر الصالة، وعندما تأخر عن العودة لمكانه خرجت من الصالة وسألته «لماذا تركت مشاهدة الفيلم» قال لي «هذا ليس فيلمي!»
لقد كان الفيلم مدبلجا للإنكليزية. ما يعنيه، أن شخصيات فيلمه تتحدث الإيطالية ولا يمكنه أن يرى الشخصيات تؤدي حوارها بالإنكليزية فأصبحت الشخصيات ليست هي التي جسدها في الفيلم! كأن يَتمَّنى لو كان الفيلم «مترجما» وليس «مدبلجا»!