د. جاسر الحربش
مع بداية الطفرة الأولى في أسعار النفط قبل حوالي أربعين سنة، بدأت تتبلور طبقة اجتماعية جديدة في المجتمع السعودي. قبل ذلك لم يكن هناك فرز طبقي واضح ومحصن بالأموال والأسوار وبتنوع الحياة داخل وخارج الديار . كانت هناك الأسرة الحاكمة وبضع عائلات ميسورة، والبقية خلطة اجتماعية متقاربة الأحوال يمسك من في الأعلى منها بالذي يتهدده السقوط إلى الأسفل، وهذا يسمّى دور الطبقة المتوسطة. لأنّ الناس كانت تعرف بعضها بأدق التفاصيل لم يكن من المقبول أن يتمطى البعض في النعيم ويتقلب البعض على الفاقة وانكشاف الحال. باختصار لم يكن من المقبول قبل طفرة الثروات النفطية أن يوجد فرز طبقي على الطريقة الرأس مالية المتغولة.
الآن وبعد أربعين سنة أصبح الفرز الطبقي واضحاً لدرجة تشبه العيش في كانتونات مسيّجة بالأسوار والشبوك والبوابات المحروسة . خرفشة أوراق البنكنوت ومحافظ الأسهم وبريق المعادن الثمينة وانفتاح الأبواب إلى ملذات جديدة أوجدت، بالديناماكية الرأس مالية، مسوغات ثراء رمادية الأخلاق والانتماء . هذه المسوغات الرمادية أوجدت بدورها تجمعات انتفاعية تبادلية، بعضها يحتضن اللحمة والآخر يقطع ويوزع والشاطر يكسب أكثر. الشاطر الذي يكسب أكثر هو الأكثر جرأة والأقدر تزلفاً والأشهى زاداً على موائده. قيل لرجل أيام الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية، نراك تصلي مع علي وتأكل عند معاوية، فقال أجل فالصلاة خلف علي أتقى والأكل مع معاوية أشهى، وما أريد أن أحرم نفسي من الفضيلتين، أو هكذا قال.
المشكلة التي غفل عنها سرات المجتمع أثناء طفرة التبلور الطبقي كانت سطحية النظر في النسب الاجتماعية، نسب الذين انفرزوا إلى الذين أفرزوا، ولم تكن أكبر من خمسة إلى عشرة بالمائة للفارزين مقابل تسعين بالمائة للمفروزين، مع ما صاحبها من انزلاق تدريجي ومتواتر للطبقة الوسطى في اتجاه المفروزين . الآن، لأسباب عالمية وسياسية واستراتيجية، يبدو أن البطارية القديمة انتقلت من مرحلة الشحن العالي إلى مرحلة التفريغ السريع، ولكن الاستجابة للتعامل مع الشحنة المتبقية في البطارية لم تكن حسب رأيي المتواضع مستوعبة للوضع الطبقي الاجتماعي الذي أوجدته ثروة الطفرة .
العنوان الحالي للاستجابة هو برنامج التحول الوطني . أحد محاور هذا التحول يدور حول تعويد المواطن على شد الحزام والتقشف والتصرف مع إمكانياته بعقلانية . إعانات الدولة لأساسيات الحياة اليومية سوف تتقلص، وبعض الفواتير الاستهلاكية سوف ترتفع، والضمانات الحكومية المعتادة للصحة والتعليم مقبلة على شيء مجهول اسمه الخصخصة .
بمنطق العدالة الاجتماعية يجب أن يكون التعامل مع شحنة البطارية المتبقية بطريقة أن من كان المستفيد الأول والأكبر في الماضي، يجب أن يقدم التضحيات الأولى والأكبر في الحاضر، لخدمة المستقبل ولصالح المستثنى الأكبر من الثروات في السابق .
لا تزال هناك ثروات سعودية بالترليونات تجمعت عبر الطفرة في الداخل والخارج، بعضها في حالة سيولة وبعضها في الخزائن الأجنبية، بعضها بعرق الجبين وبعضها تجمع من مدخلات الفساد . هناك أيضاً مساحات أراض شاسعة تم الاستحواذ عليها بالتزوير وبوضع اليد والفساد التكسبي الذي وصل إلى قليل أو كثير من كتّاب العدل . باختصار ما زالت هناك ترليونات من الأموال تجمعت في أيادي النخب المحسوبة على المستفيدين الكبار من السنوات السمان الماضية .
بحكم عملي في مهنة الطب أتعامل يومياً مع مختلف طبقات المجتمع وأعرف ماذا سوف تعني خصخصة الصحة والتعليم ورفع الفواتير للأغلبية السكانية. ذلك يجعلني لا أهتم بالأرقام التي تتعامل بها الآلة الاقتصادية . المتوقع أن تكون مخرجاتها الرقمية مفيدة، ولكن لأي الطبقات الاجتماعية ؟. إعطاء الاعتبار الأول في برامج التحول الوطني للأرقام لا يكفي، والمقدم عليه إعطاء الاعتبار للنتائج الإنسانية المحتملة. خصخصة الخدمات الأساسية التي تكفلت بها خزينة الدولة حتى الآن سوف تصب مكاسبها على الأرجح في جيوب نفس الطبقة التي استفادت من السنوات السمان، ومن المحتمل جداً أن تكون مرة أخرى على حساب الطبقات التي كانت خارج الشحم واللحم فيما مضى. وضع كهذا إن حدث سوف يزيد ويوسع في الفرز الطبقي وتكون الكانتونات الاجتماعية. منطق العدالة وشروط الاستقرار الاجتماعي تقول بأن شد الأحزمة وتوفير المبالغ اللازمة للتحول الوطني، يجب أن يبدأ بأولئك الذين استفادوا من السنوات السمان. مصالح الوطن الحقيقية هي تلك التي تشمل الأغلبية، وفي الفترات الانتقالية يجب أن يتقشف أولاً ًالمدسمون اللاحمون ويترك الأنحف والأرق حالاً على الأقل في الحالة التي هو عليها.