محمد آل الشيخ
لم تجد أوربا طريقها نحو التقدم الاقتصادي ثم الصناعي، فالأمن والاستقرار ورفاهية البشر، إلا عندما حيّدت الكنيسة، ورجال الكنيسة، عن التدخل في شؤون الحياة الدنيوية، وبالذات السياسية منها على وجه الخصوص. رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام حذّر منذ البدء من شخصنة الدين واختزاله في كهان، يرفعونهم إلى مرتبة الربوبية، فيتبعونهم، ويضعونهم ويضعون مقولاتهم وما ينطقون به في مقام الله جل وعلا، وهذا بلا شك في القاموس الإسلامي ضرب من ضروب الشرك بالله، وهو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله (لتتبعن سنن من كان قبلكم) خذ - مثلا - ما جاء في الكتاب الكنسي (منهج اللاهوت الرعوي) حين يتحدث مؤلفه «الانبا تادرس» فيقول: (وعظمة الكهنوت مستمدَّة من الكاهن الأعظم ربنا يسوع المسيح، الذى قدم ذاته ذبيحة على الصليب، مبطـِـلاً ذبائح وكهنوت العهد القديم، ومؤسـِّسًا كهنوت العهد الجديد. فبعد أن تم الفداء على الصليب، أراد الله أن (يُشرك) البشر فى هذا العمل، فقدم لنا الكهنوت العام والكهنوت الخاص.). أي أن الرعوية الكهنوتية تعني بالمختصر المفيد شركا بالله أوضح من الشمس في رابعة النهار. وهذا بالضبط ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا في الحديث الذي رواه «عدي بن حاتم» في قوله: (أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة (التوبة) {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} أما أنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)؛ وبعد هذه المقدمة المؤصلة من منطلق مسيحي يكرسها ومن منطلق إسلامي يُحرمها، أريدكم أن تستعرضوا الساحة الإسلامية المسيّسة، وبعض مقولات من يُسمون أنفسهم بالدعاة، ستجدهم ينقسمون إلى فئتين: فئة تؤصل مقولاتها بنص قرآني، أو حديث نبوي لا يتعارض مع القرآن، وهؤلاء هم العلماء الذين يخشون الله، والمطلوب منا اتباعهم، والفئة الثانية (مُفبركون) كذابون يقولون في الدين من عند أنفسهم كالقرضاوي في فتواه بجواز قتل النفس؛ هؤلاء هم (كهان المسلمين) الذين يوازون كهان الكنيسة، حيث سنوا لهم سنة لا تختلف مع ما كان كهان الكنيسة يفعلون؛ فيحللون ويحرمون، ويضعون أنفسهم في موضع (الألوهية)، ويسبغون على مقولاتهم قدسية ما أنزل الله بها من سلطان، كقولهم / (مانتقد العلماء فقد انتقد الدين)، تماما كما كان النهج اللاهوتي الكنسي الذي حذّر منه الرسول، وتخلى عنه فيما بعد المسيحيون لاحقا، حينما حصروا الكهنوتية في ما يخص الدين، لا ما يخص الدنيا ومصلحة الإنسان فيها.
الإرهاب - مثلا - وكل مشايخته ودعاته ودهاقنته هم أساطين (الكهنوتية الإسلامية) أو كما يسمون اليوم بدعاة (الإسلام السياسي)، فهم الرحم الأول الذي أنجب العنف، وسيّل الدماء، وثوّر الإسلام، وشذ عن قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وما كان ذلك ليكون لولا انتهاج هؤلاء الدعاة المسيسون (للكهنوتية الاسلامية) فقد كان هؤلاء هم منظروه وكهان الإرهاب والدعاة إلى العنف؛ وأنا على يقين لا يخالجه شك، أننا لن نقضي على الإرهاب، إلا إذا سلكنا المسلك الذي سلكه قبلنا المسيحيون بتخلصهم من تدخل الكنيسة في شؤون الدنيا، وهو - أيضا - ماحذر منه النص القرآني الذي ذكرت آنفا، ونحول بين الكهنوتية المتأسلمة وبين السياسة والشؤون السياسية الدنيوية، ونعمل على تفعيل القاعدة الفقهية التي تقول (أينما كانت المصلحة فثم شرع الله)، والمصلحة يعرفها المتخصصون فيها، وليس من يتسمون برجال الدين؛ فالصحة وشؤونها يعرفها ويعرف كيف يتلمسها (الطبيب)، والاقتصاد يعرفه ويعرف كيف يتلمس المصلحة فيه (الاقتصادي)، والسياسة يعرفها ويعرف كيف يتلمس مصلحة الناس فيها (السياسي) وهكذا في بقية الشؤون الحياتية الأخرى؛ وعلى ذلك يجري القياس وتتحقق المنافع الدنيوية. أما أن يأتي أناس لم يعرفوا إلا القضايا الدينية العقدية والتعبدية، وربما تاريخ من سبقونا من المسلمين، ويضعون أنفسهم (علماء) في كل الشؤون والقضايا الدنيوية، ويعطون أنفسهم دون غيرهم بذلك مهمة تقدير المصالح ودفع المفاسد في الحياة الدنيا، فهذا بالضبط ما كان يمارسه كهان الكنيسة في العصور الوسطى، والتي أشعلت ممارساتهم من الفتن والحروب والتطاحن بين البشر ما نقرأه اليوم في كتب التاريخ الأوربي فتقشعر له الأبدان ويتنزه عنه المتدينون الحقيقون؛ وما يمارسه أساطين الكهنوتية الإسلامية اليوم هو تماما صورة مماثلة لما كان يمارسه كهان الكنيسة قبل أن يُحيدونهم عن التدخل في شؤون الحياة الدنيا، فمن يتكلم بوصفه ممثلا لله أو مندوبا عنه أو وكيلا له في الأرض، فهؤلاء هم من جعلوا أنفسهم {أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} كما جاء في القرآن.
إلى اللقاء .