د.عبدالرحيم محمود جاموس
مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث يمثل حدثاً ثقافياً سعودياً عربياً ذا أبعاد عالمية بامتياز، كان لم يمضِ سوى عامين ونيف على إقامتي في المملكة وفي مدينة الرياض الجميلة بالذات، عندما عقد مهرجان الجنادرية الأول للثقافة والتراث في مارس من عام 1985م، بأمر ورعاية كريمة من المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز طيب الله ذكره، وكان رحمه الله آنذاك ولياً للعهد ورئيساً للحرس الوطني، مُكلِفاً القسم الثقافي في الحرس الوطني بتنظيمه والإشراف عليه، إدراكاً منه رحمه الله ما للثقافة والتراث من أهمية في صياغة حضارة الشعوب والأمم، وكسر الصيغة النمطية العسكرية الكلاسيكية للأجهزة العسكرية لتعنى بالثقافة والتراث التي هي بمثابة وجه الأمم المشرق.
لقد كان حدثاً ثقافياً وتراثياً وحضارياً سعودياً وعربياً بامتياز، ترك بالغ الأثر في نفوس عامة الناس، والمثقفون منهم خاصة سعوديين وعربا لشموليته وتنوعه، وعمق رسالته الثقافية والتراثية والحضارية، على المستوى السعودي والعربي، شاقاً طريقه نحو العالمية في آن واحد باقتدار، بل أصبح يتطلع إليه المثقفون العرب والعالميون كموسم ثقافي هام يتمنون مشاهدته ومتابعته والمشاركة فيه إن أمكن، لما اشتمل عليه من تنوع فكري وثقافي تراثي حضاري، من خلال برامجه وأنشطته المتعددة، من أدبية وسياسية، واقتصادية، وفلكلورية، بهدف معرفة الذات وتقديمها للآخر بأوضح صورها التراثية والتاريخية والواقعية التي ترنو نحو مستقبل أفضل، انتهاءً بالاطلالة على الآخر، وذلك من خلال ما يقدم فيه من مشاركات تعبر عن إبداعات ورؤى من مختصين ومثقفين عرباً وسعوديين، وأيضاً عالميين، من أدب وأفكار وتفاعل ثقافي وحضاري جميل يحقق فكرة التعارف التي حث عليه ديننا الإسلامي الحنيف (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فمعرفة الذات ومعرفة الآخر شرط أساسي لتحقيق التعارف من جهة، وتقديم الذات كما كانت عليه وكما هي عليه، وما تصبو إليه أيضاً، في إطار تفاعلي على مستوى الشعب والأمة، وعلى مستوى العالم، نعم، إنها الحضارة العربية التي كانت دائماً متفاعلة مع الآخر، وترفض التقوقع والانغلاق على الذات، ولذا تتعدد برامج المهرجان وتتنوع ليؤدي رسالته الثقافية والتراثية والحضارية، فمن العروض الفلكلورية المتنوعة التي تعكس ثقافة المجتمع، إلى مختلف الحرف التقليدية واليدوية والتي تعكس ما كان عليه واقع الحياة في الماضي، وصولاً إلى الحداثة والمعاصرة، التي باتت عليها حياة المجتمع، إلى الندوات الثقافية والفكرية والأدبية، التي يتميز بها المهرجان، ويشارك فيها مثقفون سعوديون وعرب وغيرهم، تعنى بِهَمِ الثقافةِ والأدبِ والفكرِ وقضاياه المعاصرة المختلفة، التي تعالجها الندوات التي ينظمها المهرجان، وتصل إلى خلاصات تهم الجميع، نعم إنه تظاهرة حضارية تراثية ثقافية.
ومنذ انعقاد الدورة الأولى للمهرجان في العام 1985م، لم يتوقف سوى في السنة الماضية 2015م والتي شهدت رحيل المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز صاحب فكرة هذا المهرجان الثقافي الرائع، حزناً على غيابه.
ليستأنف اليوم في دورته الثلاثين هذا العام 2016م تحت رعاية وتوجيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، المعروف عنه أيضاً شغفه بالتراث والثقافة والفكر، وانفتاحه على كل ما من شأنه تعزيز الشخصية الوطنية والعربية والإسلامية في آفاق إنسانية رحبة، تتطلع إلى مزيد من الرقي والتقدم بحياة الإنسان، وتحقيق التعارف والتسامح بين أفراد المجتمع من جهة وبين المجتمع العربي وغيره من المجتمعات الأخرى.
رحم الله الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي أسس وخطط ونفذ لهذا المشروع الثقافي والتراثي والحضاري الكبير، ووفق الله الملك سلمان بن عبد العزيز الذي يواصل رعاية هذا المشروع وتطويره لتحقيق رسالته وغايته الثقافية والحضارية النبيلة، ليستمر هذا الحدث الثقافي الكبير والذي تنعم به المملكة العربية السعودية اليوم عامة ومدينة الرياض خاصة، وأنتظره سنوياً، كما ينتظره العديد من المثقفين والمبدعين من عرب وسعوديين وعامة المواطنين كموسم ثقافي هام.