د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لفت نظري أحد الأصحاب -ممن ابتلوا بمتابعة الرياضة- وهو يسخر من أحد (النقاد) الرياضيين ويصفه بعدم الفهم، مؤكداً أنه لو كان يفقه في الرياضة شيئاً لأبدع في (المستطيل الأخضر) حين كان لاعباً قبل سنوات، وهنا تبادرت إلى ذهني قضيةٌ مهمةٌ تتصل اتصالاً وثيقاً بالفنون..
هل يلزم أن يكون الناقد الأدبي أديباً مبدعا؟ وهل يجب أن يكون الناقد التشكيلي رسَّاماً متميزا؟ وهل يفترض أن يكون أداء الناقد المسرحي كالممثل في التألق والإقناع؟ وقل مثل هذا في بقية الفنون، بل في كلِّ النشاطات الحياتية، كما يمكن طرح التساؤل نفسه من جهة معاكسة: هل يلزم أن يكون المبدع ناقدا؟ وهل ينبغي على مَن يمتلك أدوات الإبداع أن يمتلك بالضرورة أدوات النقد؟ ما هي طبيعة العلاقة التي تربط بين الناقد والمبدع؟ وهل يلزم من وجود أحدهما في المرء وجود الآخر؟
أعي تماماً أنَّ كثيراً من النقاد قد أشار إلى هذه القضية، غير أنَّ رغبتي في تأكيد حقيقتها، وإزالة ما قد تؤديه من وهم، وكشف ما يكتنفها من غموض، وتقديمها بصورة أيسر مما سبق طرحه، كل ذلك دعاني إلى كتابة هذه الحروف.
لقد اختلف المبدعون والنقاد منذ القدم في هذه العلاقة وطبيعتها، حيث رأى بعض المبدعين أنهم أعرف بأسرار الإبداع، وأفهم بدقائق المعاني وجماليات الألفاظ، ومن ثمَّ فهم الأقدر على معالجة النصوص، والأكثر إقناعاً في تقييمها والحكم عليها، فقد رُوي أنه قيل البحتري: يا أبا عبادة، أمسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس؛ لأنه يتصرف في كل طريق، ويبرع في كل مذهب: إن شاء جدَّ، وإن شاء هزل، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعدَّاه، ولا يتحقَّق بمذهبٍ لا يتخطَّاه، فقال له: إنَّ أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله؛ فإنما يعرف الشعر من دُفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة، إنَّ حكمك في عميك أبي نواس ومسلم وافق حكم أبي نواس في عميه جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما ففضَّل جريراً، فقيل: إنَّ أبا عبيدة لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من علم أبي عبيدة؛ فإنما يعرفه من دُفع إلى مضايق الشعر.
وواضحٌ أنَّ مثل هذه الأحكام التي صدرت عن شاعرين كبيرين تنطلق من قناعةٍ تامةٍ بأنَّ المبدع أعلم بالإبداع من الناقد، وأنَّ مَن خاض غمار الإبداع أقدر على نقده وتمييز جيده من رديئه، وهي رؤى لا تستند على دليل ولا يعضدها تعليل، نعم، قد يخفق الناقد ويصيب المبدع في نقده، غير أنَّ هذا لا يعني بالضرورة أنَّ كلَّ مبدعٍ أعرفُ بالإبداع من الناقد، بل لا أبالغ إذا قلتُ إنه لا علاقة بتاتاً بين التميز في النقد والتميز في الإبداع؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ منهما خصائصه وأدواته وسماته.
ولعلَّ من أهم الدلائل على صحة ذلك أننا نجد كثيراً من النقاد ينتج دلالاتٍ من النص الأدبي لم يتفطَّن إليها المبدع نفسه، ولم يفكر فيها أصلا، غير أنَّ الناقد الجيد بفطنته وبما يمتلكه من أدوات وثقافةٍ خاصةٍ وخبرةٍ بالمعالجة النقدية وتجربةٍ في قراءة النصوص، تكون لديه القدرة على ملاحظة أمور لا يمكن للمبدع ولا غيره ملاحظتها، مما يؤكد أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما عمله الخاص ونشاطه المحدد، وهو ما تنبه إليه ابنُ رشيق القيرواني حين عرض لبيت امرئ القيس الشهير:
مِكرٍّ مِفرٍّ مقبلٍ مُدْبرٍ معاً
كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ
فبعد أن توقف عند هذا النص، وذكر مجموعةً من التفسيرات التي فهمها منه أو قيلت فيه، قال: «ولعلَّ هذا ما مرَّ قطُّ ببال امرئ القيس، ولا خطَر في وهمه، ولا وقع في خلده ولا روعه»، وهو اعتقادٌ يؤكد أنَّ ابن رشيق وكثيراً من العلماء غيره يعون تماماً طبيعة العلاقة بين طرفي الإبداع: الناقد والمبدع، وأنَّ الناقد الجيد أقدر على فهم النص وتفسير معانيه وإنتاج دلالاته المحتملة من صاحب الإبداع ومنتجه.
بل إنَّ بعض المبدعين يعترف بهذه الأفضلية، ويحيل إلى النقَّاد في إنتاج دلالات نصِّه؛ لأنه يعي تماماً أنَّ الناقد أقدر على هذا الإنتاج، ولهذا كان أبو الطيب المتنبي كثيراً ما يحيل إلى ابن جني فيما أشكل من شعره، ويقول: «اذهبوا إلى ابن جني؛ فإنَّه يقول لكم ما أردتُه وما لا أردتُه».
وتتأكد هذه الفكرة حين نلقي نظرةً سريعةً على المشهد الأدبي النقدي في العصر الحديث، فالواقع يؤكد أنَّ النقَّاد الكبار على مستوى العالم لم يكونوا مبدعين، بل ربما لم ينشئوا إبداعاً قط، فإحسان عباس لم يكن شاعراً، وعلي الراعي لم يكن روائياً، وبرناردشو لم يكن الأفضل ككاتب قصة، وذلك أنهم يعون أنَّ كونهم نقادا لا يعني أبداً كونهم مبدعين، بل إني أرى أنه من الأفضل للمرء ناقداً أو مبدعاً أن يتفرَّغ لما يفقهه وتوفِّره له موهبته، وأن يسعى جاهداً إلى الحصول على مخزونٍ ثقافيٍّ وفكريٍّ يسهم في صقل فنه وتعميق موهبته.