محمد عبد الرزاق القشعمي
قرأت هذا الكتاب بإعجاب.. لم أستطيع الفكاك منه بمجرد قراءة المقدمة.. اذ قرأت له قبل ذلك عدة كتب وبالذات سيرته الذاتية (ماذا علمتني الحياة) و(رصيف العمر) وهذا (مكتوب على الجبين) الذي اعتبره حكايات على هامش السيرة الذاتية صدر عام 2015.
فبعد تجاوزه الثمانين من عمره بدأ يتذكر ما لم يذكره في كتابيه السابقين فكان هذا الكتاب رغم اخفائه بعض ما يخجل فهو يقول انه يعرف أنه لا يمكن لكاتب مهما بلغت جرأته أن يقول كل الحقيقة، لا عن نفسه ولا عن كثيرين ممن عرفهم من الناس.. ويؤكد ذلك بقوله: «هذا الاعتقاد القوي لدي، بأننا نقضي حياتنا ونكتب الكتب دون أن نقول إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة ..» ولهذا يعتبر من التقاهم في حياته (لغز من الألغاز)، «.. وجدت معظم هؤلاء (بل أكاد أقول كلهم) من الألغاز المستعصية على الفهم، لقد أحببت كثيرين منهم حباً جماً، واعتراني نفور شديد من كثيرين غيرهم، ولكنني وجدتهم جميعاً، سواء من أحببت منهم أو كرهت (ألغازاً بشرية) لا أستطيع أن أفهم كيف اجتمعت في واحد منهم هذه الصفات المتعارضة..».
في الكتاب الكثير مما يستحق الذكر والتوقف عنده ولكني سأقتصر على ذكر القليل منه وبالذات علاقة والده أحمد أمين بالدكتور طه حسين قبل أن تصاب بالبرود الذي استمر حتى وفاة والده عام 1954 قائلاً: «.. كانا شخصيتين مختلفتين جداً في المزاج، كما كانا في أسلوب الكتابة .كان طه حسين يهتم، كما هو معروف بجمال الأسلوب أكثر مما يهتم بغزارة المعنى، وكانت طريقة أبي في الكتابة عكس ذلك بالضبط ..».
وقال إنه لم يقابل طه حسين وجهاً لوجه في حياته إلا مرة واحدة، قبل وفاة طه حسين بشهور قليلة، في مجمع اللغة العربية الذي كان يرأسه طه حسين، وكان استاذه عبدالحكيم الرفاعي، عضواً بالمجمع وكان المجمع يعمل على إقرار مصطلحات عربية صحيحة في علم الاقتصاد .. وقد استعان الرفاعي به إذ طلب منه اختيار مجموعة من المصطلحات الإنجليزية وأن يقوم باختيار مقابلها بالعربي وان يعرض ذلك في جلسة المجمع .فيقول: «شاهدت طه حسين وهو يدخل القاعة بصحبة سكرتيره، فاذا القاعة التي كان يسودها الضجيج والأحاديث الجانبية بين الأعضاء، الواقف منهم والجالس، يحل بها صمت كامل بدخول هذا الرجل الضرير، ولكن يشع منه بريق نفسي يخطف الأبصار. أخذني أحد الحاضرين من يدي ليقدمني إلى طه حسين لمصافحته، وذكر له بالطبع أني ابن الأستاذ أحمد أمين، فرحب بي بلطف.
كان في الحجرة نحو عشرين شخصاً، تسلموا كلهم في يوم سابق على الجلسة نسخة مما أعدته من مصطلحات وتعريفات، وبدأت أتلوا عليهم مصطلحاً بعد آخر حتى وصلت إلى مصطلح (الانكماش)، كمقابل للمصطلح الإنجليزي (deflation) وقرأت تعريفي بأنه انخفاض مستوى الانفاق والدخل والأسعار إلخ. فإذا بأحد الأعضاء يهب واقفاً معترضاً بشدة على استخدام هذه الكلمة (الانكماش) لوصف حالة كهذه، وقال إن القواميس تقول: (كمش الحصان أي أسرع في سيره) وهو عكس المعنى الذي أقوله والذي يتضمن ركوداً وتباطؤاً في الحركة... نظر طه حسين في اتجاه الرجل وقال بصوته الفخم: (جبتها منين دي يا عباس؟)، فإذا بعباس حسن، وكان لا يزال واقفاً يجيب بحماس، وقد رفع بيده كتاباً ضخماً، بأن هذا هو ما يقوله (لسان العرب) أو(مختار الصحاح).. توجه طه حسين بوجهه إلى ناحيتي وسألني: (هل درجتم أنتم معشر الاقتصاديين على استخدام هذا المصطلح، أي الانكماش، بهذا المعنى؟) فأجبته بالإيجاب، فإذا بطه حسين يفاجيء الجميع بقوله لعباس حسن (طظيا عباس)، ثم قال ما معناه إنه إذا كان العمل قد سار على ذلك، واستقر استخدام الاقتصاديين للفظ بهذا المعنى فلا ضرر من ذلك، ويجب على المجمع أن يقره، كان هذا كافياً لأن يلتزم عباس حسن الصمت، وأن أستمر في قراءة بقية المصطلحات، ولم يزعجني بعد ذلك شخص آخر.
وقال عن والدته انها قليلة الحظ من التعليم والثقافة وكانت عكس الوالد الذي يعشق الكتابة ولا يكف عن التفكير في الموضوعات العامة .. ومع ذلك تحاول والدته أن تظهر أمام أبنائها أنها أشد منه ذكاء وأرجح عقلاً، ولهذا فقد قال والده في كتابه (حياتي) انه وصل إلى اقتناع بأن «المنطق هو أسخف طريقة للتعامل مع أكثر من عرف من النساء».
وقال في ختام الكتاب (مسألة حياة أو موت)، «.. أعتقد أن خوفي من الموت يضعف مع تقدمي في السن، ولكن الحزن لسماع أخباره يزيد ولا يضعف..»، وقد استشهد بجملة قرأها في رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، وتقول إن كلاً منا يرحل وحيداً في نهاية الأمر.. ويذكر كلمة قالها نجيب محفوظ مؤداها أنه لا يستطيع أن يقرر ما إذا كانت الحياة هي الأصل أم الموت.