عبد الله باخشوين
لعل أخطر الأمراض التي تقع فيها المجتمعات النامية والناهضة في ظروف مالية واقتصادية مواتية تتيح للأفراد بمختلف مستوياتهم العلمية والثقافية فرصة النهوض وتحقيق مكاسب قادرة على تحقيق نقلة نوعية في حياتهم.. ليس لتحسين وضعهم فقط.. لكن للانتقال بهم من الطبقة الدنيا إلى ما فوق الطبقة المتوسطة.. وتحول قدراتهم الذاتية من ((قلة الحيلة)) للدخول في دائرة النفوذ والقرب من المتنفذين والاستفادة من نفوذهم و-ربما- مجاراتهم.. والدخول معهم.. أو إدخالهم في وهم يوحي بأن لدى الفئتين مصالح مشتركة.. كفيلة بتقوية الروابط بينهما بطريقة توحي أن ذلك ((الطامح)) أو ابن ((الطفرة)) هو الخادم الأمين للمصلحة العليا لأصحاب النفوذ.. وأنه يمكن الركون إليه والثقة فيه.. لأنه متفان ومخلص وأنه لا يخدم نفسه ك: ((حديث نعمة)).. بل يخدم من هو: ((ولي النعم)).
غير أن الأمر ليس كذلك مطلقاً.. لأن هذا النوع من الناس خلال سعيه للصعود اجتماعياً بتحسين موقعه كموظف يتحلى بالثقافة ويمد رأسه محاولاً إيجاد مكان له يتناسب مع ما نمى لديه من طموح اقتصادي وربما سياسي.
خلال مرحلة الصعود هذه توجد فئة -ليست قليلة- تفقد توازنها النفسي.. وتصاب بأمراض خطيرة أخلاقية وسلوكية.. تفقد كثيرا من القيم التي نشأت عليها.. أو كانت لديها وأدت إلى جعل المتنفذين يثقون بها ويطمئنون للتعامل مع من يحملها.. ويكون دأبهم مدح الصفات التي تتحلى بها هذه الشخصية أو تلك.
غير أن هذه الفئة وتحت ضغط وصوليتها وانتهازيتها تكون قد تخلت عن كل شيء جميل كانت تحمله وأصبح أفرادها من ذلك النوع الذي احترف خدمة ((سيدين)).. ليسا متناقضين فقط بل وعدوين لدودين.. وعلى مدى تاريخنا الإسلامي الطويل وجد -دائماً- من يرى أن ((الصلاة)) خلف ((فلان)) أكمل.. والطعام على مائدة ((عدوه - فلان)) أدسم.
فيصلي خلف ((هذا)) ويتناول عشاءه على مائدة ((ذاك)) وببساطة شديدة يستطيع أن يوهم كلاً منهما انه من أنصاره وأمام نفسه يرى أنه كسب ((صلاة)) حسنة وأكل طعاما شهيا.
وطبعاً هذه الفئة من الانتهازيين هي الفئة الأكثر خطراً على الاثنين.. لأن همها الأساسي ليس سوى مصالحها الشخصية.. لأنها ترى في نهاية المطاف ألا ناقة لها في الأمر ولا جمل.. وأنها لن ترقى لمستوى هذا أو ذاك.. وأنها إذا لم تستغل ((الظرف المواتي)) للكسب من هذا أو ذاك فإنها ستكون ((عوداً)) في حطب محرقة لن يترحم عليها فيها أحد.. وكل فرد في هذه الفئة لا يحسب سوى مكاسبه.. ويحرص على ألا يطاله أي أذى وأن يقف بعيداً عن دائرة المسألة والحساب والعقاب.
هذه الفئة ليست مقتصرة على ((حديثي النعمة)) في السلم فقط لكنك تجدها في (( الدعاة)) الذين يجندون الأبرياء ويلقون بهم في التهلكة دون أن يبرحوا ((منابرهم)).. فيظهرون كأن لا شأن لهم بما صنعت أيديهم من وبال.
تجد هذه الفئة في العسكريين الذين يحرضون على الانقلابات ويظلون هم الأبرياء إذا فشلت.. ويتصدرون المنابر لقيادتها إذا حالفها الحظ ونجحت.
تجدها في الأحزاب السياسية بين قادتها وزعمائها.. تشجع على الاتجار بالسلاح والمخدرات وتبررها وتحصل على نصيبها من عائداتها.. وتتبرأ من ((المارقين والمأجورين)) الذين قاموا بها إذا ما افتضح أمرهم.
تجدها في مناح كثيرة من الحياة.. أما في المجتمعات المسالمة فإن الأرض لا تكون مهيأة سوى لأولئك الذين احترفوا العمل على خدمة ((سيدين)).
هذه الخدمة ((التاريخية)).. سبق أن تصدى لها على مستوى الأدب والفن.. الكاتب المسرحي الإيطالي كارلو جولدوني ((1707-1793)) الذي يعتبر أهم مؤسسي الكوميديا التي تعتمد على نوع من الارتجال وتسمى ((ارلكينو)).. أو ((دي لاتيه)) ومن أشهر أعماله مسرحية ((صاحبة النزل)).
أما مسرحية ((خادم سيدين)) فهي معروفة في الوطن العربي وقدمت بأشكال مختلفة..حيث قدمت لأول مرة في مصر في عام 1965 من إخراج المرحوم كرم مطاوع.. وأعيد تقديمها باللغة الايطالية على مسرح الأوبرا في عام 2004.. وقدمتها فرقة ((الميدان)) اللبنانية، أما أنا فقد شاهدتها في بغداد عام 1979 وكتبت عنها في مجلة ((وعى العمال)) التي كنت أعمل بها حينذاك.. وهى تتحدث عن ((خادم)) فقير وجائع.. تجبره ظروفه على خدمة سيدين يناصبان بعضهما العداء والبغض في صراعهما للفوز بابنة أحد تجار الزيوت الذي يريد تزويج ابنته لابن أحد أصدقائه وفاء لوعد قديم.. غير أن الطمع يحركه ويجعله راغباً في تزويجها لشخص آخر شديد الثراء.. ولأن الجميع موجود في مكان واحد في نفس اللحظة.. تدور المفارقات في قصص الحب.. وبين الأطماع والرغبة في الوصول بطريقة تتخللها المفارقات المضحكة التي تعتمد على الارتجال وارتداء البعض للأقنعة بهدف التخفي.. ويلعب الخادم الذي يريد ضمان الطعام والمال في شتى المفارقات بطريقة مضحكة ومزرية في نفس الوقت.. وتعتبر مسرحية ((خادم سيدين)) من أهم الأعمال المسرحية العالمية التي يصلح عرضها في البلاد العربية في المرحلة الحالية.. رغم مرور أكثر من 400 أربعمائة عام على كتابتها.