عبد الله باخشوين
أصبح واضحاً وجليّاً أن أكبر السرقات والمؤامرات والمكائد التي يتم نصبها ضد أي بلد.. هي تلك التي تتم من خلال جهاز مخابرات البلد نفسه.. وذلك بحكم سرية عمل جهاز المخابرات التي تمنحه قدراً كبيراً من الاستقلالية في التخطيط والممارسة والقرار.. وصولاً للنتائج.
ففي كل الظروف والأحوال تكون الحكومة والدولة على يقين من أن جهاز مخابراتها يعمل من أجل تحقيق مصالحها العليا على المدى القريب والبعيد أيضاً.
من هنا بدأ صدام حسين.. فحين استولى حزب البعث على حكم العراق.. كان المنصب الرسمي لصدام حسين هو نائب رئيس مجلس قيادة الثورة.. دون أي مهام محددة في مرافق الدولة العراقية.. وكان منصبه يعني الفصل بين رئاسة الجمهورية وما يتبعها من وزارات وأجهزة حكومية وبين مجلس قيادة الثورة الذي تعتبر مهامه أمنية بالأساس، ويتحدد نفوذها من خلال الأجهزة السرية وكل الكوادر الحزبية.
أما قرينه فقد كان رجلاً يدعى عبد الخالق السامرائي.. الذي احتل إدارة المكتب الثقافي للحزب.. ليقوم من خلال منصبه الحزبي بمهام (تنظيرية) لرسم سياسة الدولة المدنية التي يرأسها احمد حسن البكر. فكان هو مهندس تأميم النفط العراقي.. ومهندس العلاقات العراقية - السوفيتية.. ومهندس ((الجبهة الوطنية)) التي أقامت تحالفاً بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي.. وحيَّدت كل التيارات الدينية وهمشتها لمصلحة الدولة المدنية ، وفي توزيع الحصص بينها اختار صدام حسين ناظم اكزار لجهاز الأمن، واختار عبد الخالق السامرائي أحد أبناء سامراء ليكون وزيراً للإعلام.
ناظم اكزار أثبت أهليته للمنصب الذي وضع فيه.. حين دخل على المعتقلين السياسيين حاملاً تابوتاً فارغاً.. وبحضور صدام حسين استدعى من يعتقد انه الأشد شراسة بين المعتقلين ووضعه في التابوت وأحكم إغلاقه.. وبمنشار كهربائي قسم التابوت بمن فيه إلى نصفين أمام كل المساجين.. الذين انهار معظمهم بعد أن شاهدوا المصير الذي آل إليه من كان بداخل التابوت.
وعبد الخالق الذي أراد أن يبرر ويمرر كل أطروحاته طلب استدعاء ميشيل عفلق ورفاقه الذين طردهم حزب بعث سوريا بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد.. وحكموا عليهم بالإعدام وهربوا إلى البرازيل موطنهم الأول الذي جاءوا منه بفكرة حزب البعث.
أحضرهم ووضعهم في مكاتب (القيادة القومية) وعزلهم عما يريد أن يرسمه لحزب بعث العراق.. على أن يكون ذلك بمباركتهم فقط.
في البدء.. كان صدام وعبد الخالق يجتمعان كل صباح قبل أن يمضيا لممارسة عملهما.. ويقول حسن علوي.. كان يكفي أن يبدى عبد الخالق امتعاضه من أحد ما.. حتى يقوم صدام بإخفائه من الوجود.
أما عبد الخالق الذي كان يطلق عليه لقب (درويش الحزب).. فكان رجلاً بسيطاً يعيش مع أمه في منزل متواضع.. ويركب المواصلات العامة ويعيش مع الشعب العراقي حياة المواطن البسيط.. وفي سوريا المضادة للعراق كان صلاح جديد يعيش حياة مماثلة قبل أن ينقلب عليه حافظ الأسد.
لكن مفارقة العراق الحاسمة تمت في المكتب الثقافي ومن خلال الحديث الذي يدور يومياً بين عبد الخالق وصدام.
ومعروف أن عبد الخالق السامرائى هو الذي جاء بصدام حسين للحزب.. وانضمامه لكادر صدامي لا علاقة له بالمهام النظرية والفكرية.. وهو الذي كلفه بمهمة اغتيال عبد الكريم قاسم وبعد فشلها أرسله للقاهرة لدراسة القانون.. ثم اعاده ليتولى إدارة الانقلاب الذي جاء بحزب البعث على شكل عائلي مثلما أمر في مؤتمر الحزب عام 62 في بيروت.
خلال الحوارات أو الاجتماعات اليومية بينهما.. لاحظ صدام أن عبد الخالق وهو يسن القرارات التي يريد تنفيذها يقول : الحزب يريد.. الحزب يقول.. الحزب قرر.. وكان صدام يتولى المهام مدركاً أن الحزب ليس سوى (عبد الخالق السامرائي)، فبحس رجل الأمن ومتابعته ونفوذه كان على يقين من هذه الحقيقة.. لأن عبد الخالق هو الذي تولى مشاكل العراق واقترح الحلول التي نفذها صدام.. بما في ذلك الاتفاق مع شاه إيران وحل مشكلة التدخل في شمال العراق التي انتهت حينها بإعادة وحدة الأكراد مع حكومة حزب البعث.
لكن بما أن (الحزب) هو (عبد الخالق).. وبما أن بقية العراق (أمنياً) هي صدام، فقد قرر أن يتخلص منهم جميعاً في سيناريو واحد ويصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ونائباً لرئيس الجمهورية أيضاً.
ثم بدأ باغتيال أبناء البكر وأجبره على التنحي.. وأعدم كل الكادر الحزبي المؤيد والداعم له.. ومضى في حكم العراق بالكادر المحسوب على تيار احمد حسن البكر بأعجوبة، لأنه على يقين بأن هذا الكادر سيعمل بإخلاص لأنه يعرف انه نجا من الموت بأعجوبة، وان أحكام الإعدام عليه تأجلت من صدام اختباراً للإخلاص والدأب في العمل.
ظل هذا دون أن يعرف حقيقة أن عبد الخالق السامرائي وضع له مصيدة كبيرة اسمها إيران وورطه في معضلة ((شط العرب)) الذي تخلى عنه للجانب الإيراني.. ولو كان موجوداً لكان قد تولى حل المشكلة دون إراقة قطرة دم واحدة. غير أن غرور صدام وغباءه الشخصي وثقافته المحدودة.. أدخلته في اشكال دفع حياته وحياة أبنائه ثمناً لها.. وجعل العراق يعاني منه لمدى لا يعلم نهايته إلا الله.
وإذا كانت هذه التجربة هي أسوأ وأبشع تجارب أجهزة المخابرات الشخصية التي تقودها الاجتهادات.. بعيداً عن العقول المفكرة في قمة الدولة.. نتيجة طموحات وأحلام وأوهام خاصة.. فإنَّ القول الفصل هنا يجعلنا نؤكد على ضرورة ربطها مفصلياً بصاحب أو أصحاب القرار.. ليكونوا على معرفة كاملة ودراية بعمل هذه الأجهزة وتوجهاتها وأهدافها وطموحاتها الحالية والآتية والمستقبلية.. لأننا نعرف أن أكبر الأجهزة المخابراتية في العالم بدأ من أمريكا وهي التي تحرك رؤساء مثل اوباما.. لأنه لا يعرف سوى بعض ما تعرف.. وهكذا هو الحال في معظم دول أوربا.. أما الأجهزة الحيوية فإنها توجد في دول تتصدرها روسيا وإسرائيل.. وان كنا نعتبر التصريح الذي أدلى به بوتين حول دعم الجيش الحر.. وإعادة تصحيح هذه المعلومة من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها رئيس مثل بوتين متمرس استخباراتياً ومدنياً.