د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
سنوات كثيرة مرت وأخرى تمر وغيرها ربما ستمر ونحن نقف حيارى أمام قضية أساسية نخالها مستعصية وهي التعليم، التعليم بجانبيه العام والجامعي. والواقع أن الفصل بين جانبي التعليم هذين هو في عمقه فصل إجرائي أكثر منه حقيقي،
فهما مرحلتان متصلتان تصرف عليهما الحكومة ذاتها ويتبعان المفاهيم والقيم نفسها، والاختلاف هو في عمر الطالب فقط وحجم مؤسسته التعليمية، حيث إنه لا يمكن معاملة طالب جامعي بالغ مسؤول له بطاقة أحوال مستقلة معاملة تلميذ في مدرسة. وتبقى المرحلة الثانوية المرحلة الأصعب لأنّها مرحلة تربط بين المرحلتين ويتعرض فيهما التلميذ - الطالب لتغيرات نفسية وجسدية كبيرة.
ولعلنا نبدأ من المصطلح المتداول دائماً وهو مصطلح «إصلاح التعليم»، فهذا المصطلح نفسه غير دقيق وغير صحيح إلا إذا اختص بالإصلاح الإداري وقصد به القضاء على أوجه فساد موجودة في هذا القطاع لا سمح الله. وأوجه الفساد الإداري معروفة حسب الأنظمة السارية السائدة ومنها: الرشوة، والاختلاس، وعدم الأمانة، واستغلال المنصب وغيرها؛ وهي كالفطريات الملازمة لكل نبات في الطبيعة، وملازمة لأي نظام تعليمي مهما كان وأينما كان، ولكنها موجودة بنسب متفاوتة، وتعالج أيضاً بأساليب متفاوتة. ومن يعتقد أن نظم التعليم في: اليابان، وسنغافورة، وأوروبا وغيرها لا يوجد بها فساد فهو لا يعرفها عن كثب. وقد عاصر الكاتب أمورا بها فسادٍ واضحٍ في جامعات بريطانية وأمريكية لو ذكر بعضها لما صدقه البعض ليس لحجمها فقط بل لطبيعتها أيضاً، لكنهم لا يبرزونها ولا يضخمونها حفاظاً على سمعة نظمهم التعليمية، وتغطيها أحيانا أخرى إنجازات هذه الجامعات، لكنها لا تقارن بما يجري في دول عربية بعضها معروفة لدى الجميع. والعجيب أننا نقبل بمؤهلات خريجي بعض هذه النظم الجامعية العربية التي نعرف أنها «غير صالحة»، وبعض ممن يحملون مؤهلاتها يحتل أماكن مرموقة لدينا، ولا نقبل بالأريحية ذاتها خريجي نظمنا التعليمية. وأرجو ألا يفهم من هذا الكلام على أنه تسويغ لقبول أي نمط من أنماط الفساد في أي مؤسسة تعليمية لدينا، ولكني أطالب ببعض الموضوعية التي تجعلنا ننظر بواقعية لواقع التعليم لدينا على أنه لا يختلف عن أي نظام تعليمي في الخارج. وأضيف أيضاً بأن هناك بعض السلوكيات الخفية في التعليم التي لا يدخلها العامة في باب الفساد التقليدي المتعارف عليه وهي للعين الفاحصة أكثر تعقيداً وخطراً من الفساد التقليدي.
ولذلك فالكاتب يعتقد أننا مع حفظ كامل الاحترام لمصطلح «إصلاح التعليم»، علينا أن نتكلم عوضاً عنه عن «تحسين التعليم»، وهو أمر مختلف تماماً. وعندما نتطرق لتحسين التعليم فعلينا أن نطرح بعض الأسئلة التقليدية دونما أية مواربة: من؟ وكيف؟ ولمَ؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة ومنها السؤال الأول علينا الفصل بين الجانبين الإداري والتعليمي، أي بين تحسين عمل الوزارة وإدارات التعليم التابعة وبين تحسين أداء المدارس. فتحسين أداء الوزارة والإدارات التابعة لها ينطبق عليه ما ينطبق على الوزارات الأخرى: زيادة الكفاءة، وقف الهدر إن كان موجودا، وزيادة الشفافية. أما تحسين إدارة المدارس فيربط بالمستفيدين منها مباشرة وهم الطلاب وأولياء أمور الطلاب، بحيث يتم العمل على زيادة انخراطهم في المدارس، وأخذ رأيهم، وأن تطلب تقارير أداء للمدرسة منهم لتبيّن مدى رضاهم عنها. وأما الكيف: فيتعلق بأداء المدرس ذاته فهو مربط الفرس، وبدلاً من الصرف على أنشطة الندوات والمؤتمرات عديمة الفائدة، يمكن الصرف على رفع مستوى المدرسين بدورات تأهيلية جادة يربط تقدمهم الوظيفي وحوافزهم بها. كما يجب التقريب ما أمكن بين الحوافز والداء الحقيقي. أما السؤال الثالث وهو لمَ؟ فيتعلق بأهداف التعليم العام ومناهجه. وتجب الإجابة عنه بصراحة وبشفافية، فمع كثرة المؤتمرات والندوات عن التعليم قلما سمعنا عن مؤتمرات أو دراسات عن تقويم أهداف التعليم العام لدينا، وعن مواءمتها ومواءمة مناهجنا للعصر الذي نعيشه. فالتأكيد بشكل دوغمائي على كل شيء في علوم وقيم السلف خصوصاً تلك التي تتنافى مع روح العصر والعلم الحديث، قد لا يكون مضيعة للمال والجهد بل ومضر للطالب أحيانًا، ولا سيما عندما يتكون لدى التلميذ تناقضاً صارخاً بينما ما يتلقاه في ذهنه وما يشاهده من حوله. وقد يخلق تناقضاً بين ما يتلقاه التلميذ في منهج تعليمي ومنهج آخر يسبب له نوعاً من الانفصام الفكري. فمن الأهمية بمكان أن تكون المناهج التعليمية منسجمة فيما بينها ككل من ناحية ومنسجمة مع الواقع المعاش من ناحية أخرى. وهنا نتكلم عن إصلاح واضح قابل للتحقيق والمتابعة يحقق للتلميذ الاستقرار النفسي والفكري المنشود. فمراجعة أهداف التعليم ومناهجه بشكل دوري ضرورية وهي أساس كل شيء في العملية التعليمية، ومباني المدارس وأدوات التعليم فيها تخدم المنهج لا العكس. واليابان، وسنغافورة وإلى آخر الدول التي نسمع عنها مواويللإشادة والإطناب تختلف عنا أساسا في أهداف التعليم وليس في وسائله فقط.
أما ما نسميه التعليم العالي، ونقصد به التعليم الجامعي، فهو ليس إلا استمراراً للتعليم في مراحله الأولى مع اختلاف جذري واحد وهو أننا نشترط فيمن يعملون فيه التخرج من جامعات خارجية، أي الانخراط في نظم تعليمية أخرى خارجية تختلف من حيث الانفتاح وأساليب التعليم والإدارة عما لدينا، ثم العودة للتعليم في كلياتنا التي يدار بعضها أحيانا بأسلوب لا يختلف كثيرا عن التعليم العام، ولذا فكثير من أساتذة الجامعات يضخمون من إحباطهم من العودة لنظامهم التقليدي الذي تخرجوا منه، ليبرروا التحاقهم بركب الاسترخاء، وانعدام الهمة، والبحث عن مصادر دخل إضافية، أي المظاهر العامة التي تسود جوانب المجتمع الأخرى. ولوائح التعليم الجامعي لدينا متقدمة وممتازة ولا تختلف عن مثيلاتها في أي جامعات الخارج إلا في التطبيق فقط. وهنا مربط الفرس. فالجامعات لدينا ربما تستفيد من أجهزة رقابية وقضائية داخل الجامعات ذاتها، مجلس شورى مصغر، يراقب أداء مجالس الأقسام ومجلس الكليات ويراجع قراراتها للتأكد من التزامها بالأنظمة بشكل صحيح، والأهم من ذلك أن تكفل هذه الأجهزة لعضو هيئة التدريس التعبير عن رأيه بصراحة دونما تخوف من تبعات ذلك عليه. وقد يسهم تطبيق نظام الانتخابات لهذه المجالس في تحسن أدائها وضبط قراراتها.
وأداء جامعاتنا، خصوصاً الكبيرة منها يعد متميزاً مقارنة بجامعات بعض الدول المجاورة لنا خاصة خارج منطقة الخليج، وهي تخالف النظرة التي يحاول البعض أن ينشرها عنها من أن مخرجاتها لا تلائم حاجة سوق العمل، وكأنما سوق العمل لدينا لا يلائمه إلا العامل الوافد حتى ولو كان بلا مؤهل. والغريب أنه لم تصدر حتى الآن أي دراسة معمقة عن حاجة سوق العمل لدينا! وعن مواصفات «من يلائم سوق العمل»! فالجامعات السعودية تخرج أبناء المجتمع وبناته بكامل أهليتهم وإحساسهم بالكفاءة والكرامة، بينما قد يتنازل العامل الوافد عن بعض الأمور (للكفيل) لأسباب تتعلق بالحاجة وليس الرغبة، ولا يمكن أن نطلب من شاب وطني التنازل عن مثلها. ومعروف عالمياً، بما في ذلك سنغافورة وكوريا الخ، أن التأهيل لسوق العمل يقع على عاتق الجهات التي تشغل المؤهل، وأن الجامعات تقدم لها أفراداً قابلين للتأهيل والتأقلم فقط، ولو كان التأهيل يقع كله على الجامعات لاحتاجت كل شركة أو مؤسسة جامعة خاصة بها. والغريب أن مثل هذا الكلام يصدر أحيانا من رجال أعمال تخرجوا بمعدلات متدنية من جامعاتنا ذاتها. فعلينا أن نصلح الحلقة المفقودة في سوق العمل لدينا وهي التدريب المؤسسي في القطاع الخاص، وهذا لا يمكن أن يأتي إلا من حاجة يشكلها منع الاستيفاد والتوظيف والممارسة لكافة المهن التي تؤهل لها مؤسساتنا التعليمية، فالتعليم ليس مهمة الدولة فقط بل مهمة القطاعات الأخرى أيضاً. والقطاع الخاص ليس ربحا فقط بل ربح ومسؤولية، وهذا هو الفرق الأساس بيننا وبين سنغافورة وكوريا وغيرها وليس المدارس فقط. والإصلاح يحب أن يشمل قطاعات التعليم غير الرسمي أيضاً لنعرف أن ما تخرجه جامعاتنا من أفضل ما تخرجه الجامعات لقطاعات العمل. فدع ما لسنغافورة لسنغافورة وما للمملكة العربية السعودية للمملكة!