د.خالد بن صالح المنيف
في إحدى زياراتي للنمسا ذهبت للسباحة في أحد أجمل المسابح في فيينا، وبعد ما فرغت من ارتداء ملابس السباحة انطلقت نحو المسبح والشوق يحدوني؛ لمعانقة تلك المياه العذبة الصافية، وفجأة حدث ما لم يجر في الخاطر ولم يكن في الحسبان، حيث اختل توازني ثم تلاه سقوط عظيم دوت له أركان المسبح الذي كان يعجُّ بالبشر من مختلف الجنسيات والأجناس!! وقد خُيّل لي في تلك اللحظة أن كلَّ من في المسبح قد لاحظ (الطَّيحة الرهيبة) أما من هم بالقرب مني فلا شك عندي في ذلك! وكنت أحس أنهم قد دافعوا ضحكاتهم ذوقًا وأدبًا؛ حتى لا يجرحوا مشاعري!
أما عن آلامي وأوجاعي فلا تسل، فكان كلَّ ما فيني يؤلمني من أخمص القدم حتى رأسي! وأما مشاعري فكان حالها كمن نزلت بساحته محنة عظيمة وداهم حياضه خطب جلل، فتراكم غمه واشتد كربه وأظلته سحائب الهمّ!
نهضت متثاقلاً متحاملاً على نفسي أريد الهرب من هذا المكان, متمنيًا أن الأرض ابتلعتني وأنني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا! ولكني تعزَّيت بقول لافبري: إن سقطة العظيم عظيمة، واستقويت بالمثل الإنجليزي القائل: ليس الفخر ألا تسقط بل الفخر أن تنهض إذا سقطت!
وكنت لا أشك أن خبر (الطيحة) سينتشر انتشار الصبح وسيتداوله الرواة وتتناقله الركبان وسيطير ذكره في الآفاق وسيتصدر نشرات الأخبار وسيكون الخبر الأبرز عند وكالة الأنباء النمساوية APA وسأصبح حديث المجتمع في النمسا! وتخيلت المشهد مادة لبرنامج حدث في مثل هذا اليوم وسيدوم ما دامت السماوات والأرض! ولكن كانت الحقيقة مختلفة تماماً فلم تكن المسألة مثلما تخيلت بل إن من حولي لم يهتموا بما حدث لي مطلقا.
وعندما أتذكر ذلك الموقف الذي مضى عليه سنوات عدة لا أتمالك نفسي من الضحك وإن كنت لم أضحك عليه حال وقوعه أبدًا!!
وفي المقابل أتأمل كيف أن أمثال تلك المشاهد إذا لم نتعامل معها تعاملاً جيدًا متعقلاً فستهوي بمؤشر الثقة لدينا إلى أدنى المستويات, وبعد فحص الخبر وسبر الأمر تعلمت من هذا الموقف دروسًا كثيرة:
والحادثاتُ إذا ألمَّ خطوبها
فلها مساوٍ مرة ومحاسنُ
ومن أهم تلك الدروس أن ما نتوقعه ونخشاه من اهتمام الناس بلحظات انكسارنا ومشاهد إخفاقنا أبداً لا يتوازى مع الحقيقة؛ فالناس لديهم من الاهتمام والمشاغل أكثر من طيحة (خالد المنيف) في المسبح أو خطأ في فلان أثناء إمامته للناس أو للكلمة التي قالتها علانة ولم يكن لها مناسبة، أو للبقعة التي كانت على فستانها! فلا تتوقع أنك بؤرة تركيز البشر ومحور اهتمامهم الدائم!. إن الضرر من تلك المواقف لا يأتينا من الآخرين ولا من طبيعة المشهد بل - للأسف - هو نتاج لتحليلاتنا السلبية وثمرة لقراءتنا الخاطئة! فنحن من يمسك بالأسواط العنيفة نهوي بها على ذواتنا تحقيرًا وانتقاصًا وبالمطارق الصلبة نكسر بها خرسانة ثقتنا بأنفسنا وبالسهام الحادة نطعن بها هويتنا بلا رحمة!
لا تبقرون بأيديكم بطونكم
فثمَّ لا حسرة تغني ولا ندم
وكنت بعدها أسأل نفسي: شخص سقط في مسبح ما المشكلة؟ وما العيب في هذا ؟ أليس كل إنسان عرضة لمواجهة نفس الموقف؟ وهل أسدل الستار على مسرحية الحياة بعد هذا الموقف؟
وغيرها من الأسئلة التي أحاول بها تفكيك بنية أمثال تلك المشاهد ومن ثم النجاة من نيرانها.. يقول الكاتب الكبير Joedith Brayliz: (لن يقرع بابك أحد ويقول لك: صباح الخير, أستطيع أن أبيعك الثقة التي تحتاجها بعشرين دولارًا ولدي كذلك نظام تقسيط مريح لتسديد القيمة !
لا شك أننا ندرك جميعًا أن الأمور ليست بتلك البساطة، ولن تكون بتلك السهولة, إذ ينبغي أن تعالج كل الأشياء المدمرة التي تتصرف بها تجاه نفسك والتي تدمّر قدراتك وتهز ثقتك وتحول بينك وبين التقدم للأمام.
وهذا كلام في غاية الجمال ويحمل هذا التوجيه في طياته سؤالاً عميقًا ألا وهو: ما الكوابح في حياتك التي تعيق تقدمك؟ وما مدمرات ثقتك بنفسك؟
إنها تبدأ من لحظة سقوطك في مسبح عام ومرورًا بوهم أنك ستكون حديث الناس وسخريتهم عندما ترتكب خطأ، أو تنصلك من تحمل مسؤولية أخطائك وانتهاء بالتوقف التام عن القيام بأي نشاط إنساني أو مهني خشية الفشل! وإذا لم تسارع بالسيطرة على تلك المواقف فسترديك في مهاوي الضعف والهزيمة.
إن الاعتداد بالذات هو العامل الرئيس الذي يدفع للنجاح ويحرض نحو اعتلاء القمم؛ لأن تركيز الوعي على لحظات الانكسار ومشاهد السقوط (المادي والمعنوي) ستندثر معه شخصياتنا وتنطمس معالمها الجميلة.
فالحذر الحذر من اجترار المشاهد السلبية والاستغراق فيها والتحسر على خيبات الأمل الماضية، فكن شجاعًا وتجاوزها واعتبرها تجارب ومواقف تستحق التأمل تارة ولربما استحقت تارات أخرى الضحك!
ومضة قلم:
الحياة معركة لن يفوز بها الإنسان الأقوى والأسرع، بل إن الفائز ولاشك هو ذلك الشخص الذي يؤمن بقدراته ويملك دفاعات قوية ضد مشاعر الإحباط.