د. عبدالحق عزوزي
مهرجان الجنادرية هو واحد من الأعراس الثقافية والفكرية والعلمية التي يفتخر بها كل مواطن عربي ومسلم، وهو الذي يساهم في بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك. وكانت دورة هاته السنة حافلة بالأنشطة والمواضيع المختلفة.
واستوقفتني المحاور التي خصصت للمرحوم الملك عبدالله، إذ قد أحس الجميع يوم نعاه إلينا ناعيه بأن الوطن العربي بأسره فقد باختفائه رحمه الله والتحاقه بالرفيق الأعلى، أحد أبناء المملكة العربية السعودية الذين أسدوا إلى بلدهم ووطنهم العربي والإسلامي أعز وأنفس ما يسديه ابن بار، وضغطوا على التاريخ ورسموا على مسيله ومجراه طابع التأثير الذي يحدث التغيير، وينتهي به المطاف إلى التبديل والتحويل، طواه الردى عنا والأمل معقود بامتداد حبل حياته، وحاجة الوطن ما زالت ماسة إلى وجيه رأيه وصائب نظره وجميل تأتيه، وحميد مسلكه ومسعاه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.ثم كان مجيء الملك سلمان بن عبد العزيز خادما للحرمين الشريفين، دليلا على ثقة واستمرارية بيت الحكمة والحكم السعودي، وكان قد حصل لي شرف استقباله لي لما كان أميرا على الرياض وأنا أشارك في ملتقى فكري، واستقبلني في مكتبه العامر ورأيت بأم عيني كيف أن الأمير سلمان يمتلك قدرة لا توصف في الولوج إلى قلب من أمامه، ويعود ذلك إلى تطبيقه قاعدة الاستماع قبل إبداء الرأي، فهو يحسن الإصغاء قبل الكلام ثم التسلل إلى قلب متحدثه بسهولة؛ ثم إن الملك سلمان رجل مطلع ومجتهد، وهو قارئ نهم لديه مكتبة كبيرة ومتنوعة، ويبهرك عندما يتحدث معك لسعة علمه وكثرة اطلاعه وصواب تفكيره.. فهي المسيرة التي تستنير كل وقت من أوقات الالتقاء، وكل خطوة من خطوات الاستبصار والاستجلاء والتحليل والتقييم، بنور جديد ويقين وهاج...
واستوقفتني هنا الكلمات التي باح بها ولي عهد الصحافة الأستاذ خالد المالك الذي أفاض وأجاد في وصف الملك عبدالله من خلال الذكريات التي استحضرها بأسلوب فريد ووطنية صادقة ولسن قل نظيره في حق واحد ممن طبعوا التاريخ، فيحكي أستاذنا خالد المالك من بين ما تفضل به:
- «أبدأ حديثي معكم بالقول بأنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، شهدت العلاقات السعودية الأمريكية شيئاً من الفتور، بسبب ما زعم أن سعوديين كانوا وراء اختطاف الطائرات الأمريكية في عملية إرهابية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، وأثناء تلك الفترة قام الملك عبد الله بزيارة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية، وعقد والرئيس الأمريكي بوش اجتماعاً استغرق ساعات ذلك النهار كلها تقريباً، وأذكر أنه جاء إلى مقر سكنه وكان مرهقاً من يوم طويل أمضاه في المباحثات مع الرئيس الأمريكي، وكنا يومها بانتظاره لمعرفة ما تم التوصل إليه فقال لنا نحن رؤساء التحرير، إنه توصل إلى تفاهمات مع الرئيس الأمريكي بأكثر مما كان يتوقّعه، وأن الأمير سعود الفيصل سوف يجتمع بكم الآن ويضعكم في كل التفاصيل، وما إن بدأ الاجتماع حتى كان هناك اتصال هاتفي بسعود الفيصل - رحمه الله - عرفنا من سموه بعد انتهاء المكالمة أن المتحدث هو عبد الله بن عبد العزيز، وأن فحوى المكالمة تركّزت على تأكيده للأمير بأن لا يخفي علينا أي شيء تم بحثه والاتفاق عليه بينه والرئيس الأمريكي، الأمر الذي يظهر ما كان يتمتع به الملك عبد الله من اهتمام غير عادي بالإعلاميين، وتفهّم كبير لدورهم ورسالتهم.» ولنفهم حب الملك عبدالله لبلده ولمواطنيه في صون أمنهم وأمانهم:
«أتذكر أيضاً أننا - رؤساء التحرير- كنا نرافق الملك عبد الله في طائرته الخاصة أثناء زيارة رسمية قام بها للكويت خلال الحرب بين العراق وإيران فترة حكم الرئيس السابق صدام حسين، وأنه بعد انتهاء زيارته للكويت توجه مباشرة إلى العراق واجتمع بالرئيس العراقي بمطار بغداد، وخلال الرحلة بين الكويت والعراق، ومن ثم بين العراق والمملكة، تم استدعاؤه لنا إلى حيث يجلس في مقدمة الطائرة في صالون خاص، وكان حديثه معنا يتمحور حول تعاطي المخدرات في المملكة، وتجاهل الصحافة لهذا الوباء؛ بحجة عدم السماح لها بأن تتحدث عن شيء يلصق بالمواطنين والمواطنات ما يسيء إلى أخلاقهم وسلوكهم كتعاطي قلة منهم أنواعاً من المخدرات المهربة إلى المملكة، يومها تحدث الملك عن أشخاص ابتلوا بتعاطي المخدرات، وأنه حاول أن يساعدهم شخصياً على تجاوزهم لهذا الوضع الخطير الذي يكاد أن يفتك بصحتهم، وكان يتمنى على الصحافة أن تقوم بدور مساند ومساعد لهذا التوجه، غير أنها لا تفعل ولا تقوم بواجبها،كما قال، وشدد على أهمية الدور المنتظر منها، وأعلن يومها حق الصحافة بأن تتحدث عن المخدرات وفق ما هو واقع فعلاً، لتقوم الصحافة منذ تلك الرحلة بنزع الغطاء عن التكتم والسرية التي كانت تحيط بالتغرير بالشباب والشابات لتعاطي المخدرات، وكان حديثه لنا ينُمُّ عن ألم وشعور بالمسؤولية وقراءة للمستقبل إن أحيط الوضع بالصمت وعدم المعالجة، ما يظهر إحساس الرجل الكبير بخطورة المخدرات ومسؤوليته الإنسانية والعاطفية نحو مواطنيه.»
ولفهم عاطفة ووجاهة وسداد راي الملك عبدالله في تسييره للشأن العام: «في شأن أخير عن عاطفة الملك عبدالله أذكر أنه ذات يوم دعا رؤساء التحرير إلى مجلسه في روضة خريم، وكانت ملاحظاته في حديثه لنا تتركز على ما ينشر من أخبار في بعض الصحف عن قضايا غير أخلاقية، وأنها وإن كانت صحيحة، فإنها من وجهة نظره لا يليق بصحافة تصدر في المملكة أن تتبنى مثل هذه الأخبار، وكان وهو يتحدث يستشهد ببعض ما نشر، ويحلل أبعاده المضرة، وأن صحافتنا يجب أن تنأى بنفسها عن نشر مثل هذه الأخبار التي تحمل شيئاً من الإثارة غير المفيدة وإن ساعدت في تسويق الصحيفة كما قال. في ذات المجلس روى للحضور، أن رجلاً مسناً طلب منه (كلمة رأس) كما قالها الملك عبدالله بالنص، وأنه ظن أن هذا المسن يمكن له أن يقول ما عنده مجاهرة أمام من كان حاضراً ولا بأس، غير أن الملك الإنسان، تفهم أن وراء إصرار هذا المواطن المسن ما قد يمنعه حياؤه من أن يبوح أمام الحضور بما لديه، فأخذه جانباً واستمع إليه، وفهم منه أن ليس لديه سوى ولد واحد، وأن هذا الابن محكوم عليه بالقتل تعزيراً، وأن لولي الأمر الحق في إصدار العفو عنه، وكان مطلب والده أن يشمله الملك بعفوه وعدم تنفيذ حكم القتل، كونه مسناً ويقوم ابنه الوحيد بخدمته، يقول الملك لقد تفهمت طلب هذا المواطن، وشعرت أن العفو عنه أفضل من قتله رحمة بوالده، وثقتي بأن هذا العفو سيكون درساً لن يكرر المحكوم عليه ما ارتكبه مستقبلاً، يضيف الملك تمر عليّ حالات كثيرة كهذه، واستخير الله، وأبحث لها عن مخرج وفق شريعتنا الإسلامية السمحة يكون فيه مصلحة وأن قراراً كهذا لا ضرر فيه.»
فهاته القصص تحدث أثرا لها في قلب المستمع، وتنبئ عن قوة وقدرة مليك في السهر على قيادة بلد ووطن بأسلوب وفكر قل نظيرهما وللحديث بقية.