د. عبدالحق عزوزي
مع التطورات التي طرأت على المعرفة السياسية بتطور مناهج البحث، أصبح علم السياسة ينحو ليصبح العلم الذي يهتم بعلاقات القوة داخل المجتمع وبالسلطة السياسية وعلاقتها بالمجتمع، حيث لا يمكن أن تكون سياسة دون مجتمع...
وعرف هذا التعريف تطورا ملحوظا، لتكون المجالات الأربع للعلوم السياسية اليوم هي النظرية السياسية والسوسيولوجيا السياسية والعلاقات الدولية والعلوم الإدارية. وأي علم حقيقي هو الذي لا يخرج على ثلاث خاصيات أساسية: 1) فالعلم هو علم مركب بمعنى أنه تمثيلية سببية وموضوعية للحقيقة، فربط الأسباب بالمسببات مسألة مصيرية في مجال العلوم أيا كانت والالتزام بالموضوعية والحيادية أمر لا مفر منه لتكون النتائج نتائج يمكن أن تعمم وتطبق، فلا أخال مكتشفي اللقاح المنتظر ضد فيروس إيبولا سيقومون بتخصيصه لشعب دون الشعوب بدعوى أنه صالح لمرضى أو وقاية لأناس دون غيرهم مع أن لهم نفس الأعراض، فالنتيجة العلمية لا تسمى بالعلمية إلا أنها يمكن أن تعمم على الجميع، ونفس الشيء يقال عن النتائج في مجال العلوم السياسية، فالعالم أو الباحث في هذا المجال يدندن في إطار ثلاثية الفهم والشرح والتنظير (وهنا بمعنى تعميم النتائج)، ومساحة العلوم كالعلوم السياسية ليست بمساحة صحفية أو ارتجالية، فلها قواعد عالمية وأبجديات رياضية على شاكلة الفيزياء والعلوم الطبيعية وهلم جرا. والخاصية الثانية هي أن نتائج العلوم أيا كانت يمكن أن تفند. فالعلم هو الحقيقة الفعلية للظاهرة التي تنحو نحو التأكيد، ولكن مع ذلك لا يمكن لنتيجة علمية أن يدعي صاحبها أنها الحقيقة المطلقة أو أن تحتكر تلك الحقيقة كما يقول إدكار مورانEdgar Morin ، والحقيقة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى وحده العالم المطلع، والقادر المقتدر، أما العلم الإنساني أيا كان فهو لصيق بالإنسان وبطبيعته البشرية، أي يبقى جزئيا وبالإمكان مراقبة تلك النتائج واختبارها بل وتفنيدها والإتيان بنتائج علمية أكثر واقعية ومصداقية في ميراث العلم؛ أما الخاصية الثالثة فهي أن العلم هو علم منشئ، بمعنى أن الهدف الأول والأخير لأي علم هو تنمية المجتمع والسعي الدؤوب لتطويره وتنميته، ولا يخال أحد أن المجالات الأربع للعلوم السياسية وهي العلاقات الدولية والعلوم الإدارية والنظرية السياسية والسوسيولوجيا السياسية إنما يكتب فيها وعنها وتدرس لملء الرفوف وإعداد البرامج للطلبة فقط. كلا وألف كلا. فهي مجتمعة يجب أن تساهم في تطوير مؤسسات الدولة وتنمية الوطن بل والمجتمع الدولي.
وداخل مجال العلوم السياسية لنا أن نتساءل لماذا لم تستطع مادة السياسات العمومية تواجدها في مجال العلوم التي تدرس في الجامعات والمعاهد العليا على شاكلة العلاقات الدولية والسوسيولوجيا السياسية إلا في العقود الأخيرة في القرن الواحد والعشرين، وبالأخص في الجامعات الفرنكفونية؛ إذ ظلت هاته الأخيرة رهينة التقاليد الفكرية الموروثة ابتداء من هيغل إلى ماكس ويبر مرورا بماركس الذين ركزوا على الدولة، بمعنى أنه تم التنصيص على كيان يستحوذ على المجتمع، يحدده ويساهم في توجيهه، فظل علماء العديد من أعرق الجامعات الفرنكفونية في الفضاء المتوسطي وعلى رأسها فرنسا رهينة التوجهات والثقافات القانونية والفلسفية للدولة، على خلاف الولايات المتحدة الأمريكية التي عرفت التأصيل للمفهوم منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث كان لطغيان مبدإ «government» الفضل في تطور علم السياسات العمومية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ألفت عنها الكتب، وظهرت نظريات عديدة تؤصل للمصالح الجماعية والفردية التي تقوم بصياغة سياسات «هادفة» و»تنموية» تنطلق من قاعدة أساسية، وهي كيف يجب التفكير بتنموية أكثر وبمصاريف أقل مادامت الأموال المستعملة هي أموال عمومية ولأن المنتخبين لهم الكلمة الفيصل في صناديق الاقتراع. هذا الاختلاف بين المدرستين الفرنكفونية والأنغلوساكسونية يذكرنني أيضا بالاختلاف المتواجد داخل علم السياسة، هل هذا العلم هو علم الدولة أم علم السلطة؟ فإذا استقيت مبادئ المنظرين القانونيين والفلاسفة الفرنسيين الأوائل سيقولون لامحالة هو علم الدولة، خلافا لنظرائهم الأمريكيين الذين سيقولون بأنه علم السلطة...
ونتذكر جميع عندما أرادت حكومة بوش الإبن التدخل في العراق سنة 2003، رفضت جل الدول الغربية ذلك باسم الشرعية القانونية والدولية وباسم الفلسفة التي يجب أن تصطف فيها الدول في هجوم عسكري ذي أبعاد مجهولة على دولة ذات سيادة. ديك تشيني، دونالد رامسفيلد وكولن باول، كانوا جميعا يقومون برحلات مكوكية إلى العواصم الأوروبية (عدا بريطانيا التي كانت مؤيدة ومتحالفة مع البيت الأبيض) لإقناع رؤسائها ولكن دون جدوى، ونتذكر الخطاب الشهير لكولن باول في قبة الأمم المتحدة وهو يحمل قنينة صغيرة يقول فيها للعالم بأسره لو انه قام بتفجير هاته القنينة لتبخرت مساحات من الأرض في رمشة عين، وهو ما يستطيع صدام فعله لتوفره على أسلحة الدمار الشامل، وهو ما أنكره عليه وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبين في نفس الاجتماع لعدم وجود أي حجة، ورفضت بلاده تدخلا عسكريا خارج المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز استعمال القوة العسكرية الدولية في حال الهجوم على حدود دولة ذات سيادة من غير حق، أو كونها تشكل خطرا على المنظومة الدولية من خلال امتلاكها مثلا لأسلحة الدمار الشامل... هذا البون الشاسع بين الاتجاه الفقهي القانوني الفلسفي الصرف - والاتجاه الاستراتيجي، أو بعبارة أخرى بين الحفاظ على الشرعية القانونية الدولية وبين القضاء على نظام صدام وأهله، مزق في تلك الفترة أبجديات التفاهم حول محددات النظام العالمي الذي قادته وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية إلى درجة أن ديك تشيني وصف أوروبا الغربية بأوروبا العجوز خلافا لدول أوروبا الشرقية التي كانت مؤيدة للتدخل العسكري... وتشيني من خلال كلامه هذا كان يعني مما يعنيه خطأ غلبة الخزعبلات القانونية والفلسفية الفرنسية والغربية على أولويات المرحلة في العلاقات الدولية التي تفرض الحركية والواقعية الاستراتيجية اللاقانونية بغطاء شبه قانوني وشبه مرضي... فوقع التدخل العسكري الأمريكي- البريطاني رغما عن الرفض الفرنسي-الغربي والمثبطات القانونية في الأمم المتحدة، والبقية معروفة.
الإرهاب الذي ضرب عقر الحضارة الأوروبية في باريس سنة 2015 وما تبعه من إيقاف للحياة السياحية والاقتصادية في العديد من الدول وعلى رأسها بلجيكا، والتأهب الكبير في احتفاليات رأس السنة في كل عواصم الدول الغربية لم تعرفه ساكنتها من قبل تخوفا من أي هجوم ضال، وطريقة بلورة وتسيير السياسات العمومية في كل الدول، في الجانب الفلاحي والصناعي والتجاري والتشغيل وبالأخص في مجالات الأمن والسياسات الدفاعية والتسلح، تجعل كل النظريات التي يفوح بها منظرو الفلسفة والقانون صماء لشرح ما يدور في فلك التحولات الجذرية التي تعصف بالمجتمعات الصناعية الغربية منذ عقود. فالسياسات العمومية تغير اليوم السياسة، أي أن واقعها في ظل المتغيرات الدولية المعاصرة تفرض على الدوائر التي تأخذ القرارات وضع نظارات مغايرة لما اعتادتها؛ ففي مجال الأمن والدفاع والتأثير على مكونات النظام العالمي، يجب وضع نظارات استراتيجية شبه قانونية بدل نظارات قانونية فلسفية صرفة.. ولقد وصل العديد من الزملاء في الجامعات الفرنسية، إلى هاته النتيجة التي وصل إليها زملاؤهم الأمريكيون منذ أربعة قرون أو ما يزيد، في تفسيرهم للنظام الدولي، وبعد أمد طويل من المناهج الفكرية التقليدية التي قلصت من سعة الفهم والشرح والتنظير والتأثير عند المنظر وعند صاحب القرار على السواء.