حمّاد السالمي
* منذ ثلاثين عامًا مضت؛ ومهرجان الجنادرية للتراث والثقافة؛ ينهض بمهمة ثقافية وحضارية كبرى في المملكة وفي المنطقة العربية التي تتوسط هذا العالم، وتموج بكثير من المشاهد العنفية والاضطرابات والصدامات المذهبية والسياسية، التي تعود في كثير منها إلى ترسبات ثقافية عميقة في جذورها، وإلى أنساق فكرية متسلطة إلى درجة
الاستعباد، توقدها وتغذيها كلها؛ مفاهيم دينية مغلوطة، وتباينات فقهية متقاطعة، وسرديات تاريخية مثقلة بالوضع والدجل والخرافات.
* إذا أردت أن تعرف الأبعاد الحضارية التي يصل بها مهرجان الجنادرية إلى شعوب المنطقة والعالم أجمع، فانظر إلى الوجوه التي تأتي من بلاد العرب والمسلمين، ومن كل القارات، وتمعّن في لغة الحوار التي تسود المشهد طيلة أيام المهرجان، ودقّق في ما يدور من كلام متبادل بين أعلى قيادة سياسية في المملكة؛ وبين ضيوف المهرجان من الأعلام وقادة الفكر، الذين يمثلون مدارس فكرية متنوعة، وديانات وطوائف شتى، ويعكسون ثقافة مجتمعاتهم في آسيا وأفريقيا وأوروبا والأمريكتين.
* ليست المحلية في جوانبها الثقافية والتراثية هي الجزء الأهم في التناول السنوي للجنادرية. ولكن الربط بين هذه المحلية التي تملك أدوات التأثر والتأثير؛ وبين الفكر العالمي وثقافاته وتحولاته بشتى الصور؛ هو ما نشهد نموه، ونعيش تناميه موسمًا بعد موسم، وهذه ميّزة بنائية للتقارب والتعايش والسلم بين أديان العالم ومذاهبه وشعوبه، قلّ أن تتحقق في مهرجان يقام في بقعة شرق أوسطية محاطة بالبارود، فالجنادرية الذي يقدم المملكة للعالم كله فكرًا وثقافة وتراثًا وفنًّا؛ يستضيف كل عام دولة لها ثقلها العلمي والثقافي والاقتصادي والسياسي، ويستمع إلى آراء الغير في المتغيرات الدولية على كافة الصعد، كما أنه يُسمِع هذا الغير وجهة نظره بكل وضوح وشفافية، ويتجلى هذا على مدى ثلاثة عقود؛ في اللقاء السنوي المعتاد بين أعلى قيادة سعودية؛ وبين ضيوف الجنادرية.
* تكرر هذا المشهد الحضاري من جديد في قصر اليمامة في (جنادرية 30) هذا العام. (خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز) رعاه الله؛ يُعزز مواقف شعبه وبلاده في حضور وفود عربية وإسلامية ودولية تمثل النخب الفكرية والثقافية في مجتمعاتها. لخّص الملك سلمان هذه المواقف المبدئية في رزمة من رسائل جنادرية الشعب السعودي، الذي يعشق السلام، ويعمل من أجله، منذ تأسيس المملكة على يد (الملك عبد العزيز آل سعود) طيّب الله ثراه.
* قال الملك سلمان بن عبد العزيز من جديد: المملكة العربية السعودية تحرص أن يعم الأمن والسلام منطقتنا، وإن من حقها الدفاع عن النفس دون التدخل في شؤون الآخرين. ثم دعا وطالب الآخرين في الوقت ذاته؛ إلى عدم التدخل في شؤون المملكة. قال: إن المملكة العربية السعودية تدافع عن بلاد المسلمين، وتتعاون للدفاع عنها وضمان استقلالها. وقال: المملكة تتعاون مع إخوانها العرب والمسلمين في كل الأنحاء، للدفاع عن بلدانهم وضمان استقلالها، والحفاظ على أنظمتها كما ارتضت شعوبها. قال كذلك: إن الإسلام دين عدل ووسطية، وإن ما يشهده العالم من إرهاب لا يمت للإسلام بصلة، فالإسلام دين محبة وتعاون.
* وهكذا.. يأتي اللقاء في مهرجان الجنادرية هذا العام، في ظروف إقليمية ودُولية صعبة للغاية، فالدولة القومية العربية في عدة بلدان عربية؛ تعرضت للعدوان، فاهتزت وضعفت واضمحل دورها، والمنظمات الإرهابية التي تتلبس بدين الإسلام؛ وتظهر نفسها راعية وحامية له؛ تتقوى بهذا الضعف القيادي والتشرذم الجغرافي الذي أصاب الدول العربية وشعوبها في مقتل، بل وتتغول في إرهاب المجتمعات العربية التي خرجت من بينها، مستفيدة من تخاذل الدول الكبرى، ومن تواطؤ البعض الآخر منها، وتستظِل بقوى دول إقليمية لها سجل تاريخي أسود في معاداة العرب وتفريق شملهم، والجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ لا تكتفي بدعم المنظمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش؛ ولكنها تتدخل بالعدد والعتاد في دول عربية محيطة بالمملكة، وهي لا تخفي مواقفها العدائية هذه، بل تفخر بها وتجهر.
* من هنا يأتي الدور الكبير لمنبر الجنادرية، الذي ينطلق من ردهات الحوارات والنقاشات والسجالات الفكرية، وصولًا إلى قمة الطرح في مجلس الملك سلمان في قصر اليمامة، ذلك أن مخاطر أمنية وسياسية واقتصادية كثيرة تهدد المنطقة العربية، ولا خلاص من هذا كله؛ إلا بالمكاشفة التي يعرفها ويقدرها العقلاء في هذا العالم، والوقوف بكل عزم وحزم وحسم؛ ضد المعتدين الظالمين، فالعدوان الممارس ضدنا؛ ليس له إلا الردع بالمثل، وهذا ما قال به الملك سلمان في قصر اليمامة قبل أسبوع، فالمملكة تعمل من أجل السلام، وأنها مثل ما هي لا تريد التدخل في شئون الآخرين؛ فهي ترفض التدخل في شئونها، ثم إنها تملك حق الدفاع عن النفس، وتدافع عن حقوق العرب والمسلمين وتناصر قضاياهم.
* لا يوجد عاقل في هذا العالم يدعو للعدوان، ولا عاقل يقبل كذلك بالعدوان، ولكن لكل فعل رد فعل مماثل له ومستوجب للدفاع عن النفس. وكما قال شاعرنا العربي:
إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركبًا
فما حيلةُ المضطرّ إلا ركوبها
* وقول الآخر:
والشر إن تلقه بالخير ضِقت به
ذرعًا.. وإن تلقه بالشر ينحسم