د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تعود أيام المهرجان الوطني للتراث والثقافة للإشراق كما هي في كل عام، وتحمل معها الفرص، وتفتح كنوز المهرجان الملأى بالهدايا والهبات الممنوحة بسخاء للخطاب الثقافي المستنير الذي «صُنع في السعودية» وللتراث الوطني الذي «نبت في السعودية».
جاء المهرجان يحمل حواس الوطن في كل نبضات ماضيه، فأصبحت الجنادرية ذاكرة جديدة، ومتجددة تستجلب الموروث الأصيل، وتلبسه حلة عصرية، وتقيم منصات الثقافة لتحتفي بالكلمة الجميلة في مرابعها، والفكرة الشاردة في منابعها، حتى أصبحت ثقافة الجنادرية علامة فارقة في الثقافة الحاضرة ناصعة الصورة جلية المحتوى، فحينما حل المهرجان في دورته الثلاثين، وانبلج نوره أحاطه القائمون عليه بجدارة الاستبصارات الماضية من تراثنا، وجعلوها مركباً لقيادة الحاضر بإشراقات الماضي.
في المهرجان الوطني للتراث والثقافة طوَّق وسام المؤسس الملك عبد العزيز ثلاثين قامة ثقافية بوهج لآلئه، وقيمة الاسم والمسمى، فصار تكريم الأدباء والمثقفين والرواد ذاكرة أخرى تشهد لحكام بلادنا بأنهم كما نرى ونفخر.
آل سعود تباروا في مفاخرهم
ولا يحيدون عن فضل وعن كرمِ
كأنما قد تواصوا في رسالتهم
أن يقسموا في هواها خير ما قسمِ
في غراس المهرجان الماضي أنبت الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز - رحمه الله - أشجاراً وارفة، تحولت إلى أكبر احتفاء بالتراث والثقافة يباهي بالماضي إرثاً وبالحاضر منجزاً، ويستشرف مستقبلاً، وفي هذا العام سقى الغرس ودشَّن التظاهرة الوطنية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - وحظيت أجنحة المهرجان بمروره واطلاعه وحفزه متحدثاً ومشاهداً فاهتزت وربت.
ويقابلنا في المهرجان الوطني للتراث والثقافة مصطلح الانتقال من المحلية إلى العالمية الذي يتربع على واقعه منذ سنوات عدة، فقد صيغت على أرضه مؤتمرات عالمية للتراث والثقافة والفنون، فأصبح مركز إشراق آخر تتوهج من منصاته انعكاسات الضوء على حضارة بلادنا المملكة العربية السعودية،كما أن المتتبع للسجل التاريخي للمهرجان يستبصر تاريخ التراث في بلادنا والجزيرة العربية ثقافة وتقاليد وقيماً عربية أصيلة يجسدها المهرجان على أرض الواقع من خلال ما تعرضه وتشارك به المناطق المختلفة من تراثها الحرفي والشعبي القديم. ومن هنا ندلف إلى خصيصة أخرى للمهرجان الوطني للتراث والثقافة هي تأكيد الهوية الوطنية وتعزيزها لدى الأجيال.
عندما خطا المهرجان خطواته الأولى اتكأ على محددات تراثية للناس بها شغف ووله، ولهم فيها مآثر ومنابر وحكايات، انطلاقاً من سباق الهجن الكبير، حيث كانت الهجن هواهم حين المسير، وحين النفير يقول شاعرهم.
يا الله أنا طالبك حمرا هوى بالي
لين روّح الجيش طفاح جنايبها
لا روّح الجيش حاديه أشهب اللآلي
لا هي تورّد وسيع صدر راكبها
اللي على كورها واللي بالحبالي
واللي على عيزها واللي بغاربها
لا روحت مع تخاتيخ الخلا الخالي
كن الذيابة تنهش من جنايبها
وانتثرت في المهرجان الحرف والصناعات اليدوية الشعبية المتقنة التي لم تراقصها خطوط المصانع؛ ولم يدرس أصحابها مفهوم الجودة وتطبيقاتها ولكنها ملأت الحال وكفت المكان، وحيث عبق الروائح الزكية التي لم تتحقق فيها النسبة والتناسب بين مكوناتها في معامل الصناعات؛ إلا أنها مهنة معشوقة حتى الثمالة؛ كان خلط عناصرها في حنايا الوجدان، وقياس جودتها بالعين المبصرة الفاحصة.
كل ذلك؛ وغيره أسس لثقافة إحياء التراث، ونجح فيها المهرجان مع مراتب شرف عليا واقتدار؛ فحقق المهرجان تجسير الفجوة بين الناشئة وتراثهم المهمش، فجمع لهم ما بين أصالة الماضي، ورونق الحاضر.
وكان للمهرجان الوطني للتراث والثقافة وقفة انفتاح نحو حضارة الآخر تحقيقاً للتعايش الذي ما فتئت تدعو له بلادنا الغالية في كل مواقفها، وقد تمثل ذلك في صفوف الاستضافة للدول الصديقة والشقيقة للمشاركة في المهرجان كمنصة حضارة أخرى لعرض تفاصيل ثقافتها وتراثها في ذات النطاق الذي يحمل ثقافتنا وتراثنا؛ فتلك مثاقفة ترُى رأي العين وتُجنى ثمارها من الجانبين حيث يطلع مرتادو المهرجان على ثقافة الضيف وتراث بلاده، والجميل من علاقاته ببلادنا. وانطلاقاً من اسم المهرجان وأهدافه وواقعه الجميل الذي تتقد له العواطف الوطنية فليت القائمين عليه يفسحون فضاءات أكبر للتراث، فما زالت حزم كثيرة منه ترقب سانحة تحملها إلى منصات المشاهدة، وربما تكون الفرصة بإغلاق بعض القنوات المشاهدة الواقع كما أنها ليست معنية بتراث أو ثقافة، وتتمثل في القطاعات الخدمية مثل أجنحة بعض الوزارات، وكم نتمنى أن يكون للتاريخ الاجتماعي الشعبي منصة كبرى في المهرجان تحتفي به، ففي ذلك التاريخ صفحات بيضاء ترسم كفاح جيل كان يسقي صحراء الجزيرة العربية من معامل تكرير لم تصنعها بلاد أخرى، وكانوا أرق من الغيم ولكنهم أصلب من صخور السراة.
وأختم أن المظاهر الموجودة على أرض المهرجان وخارجها مما رصدته الأعين والآذان والأقلام تتنازع الأفضلية وتجتمع في أنها رافد من روافد الانتماء لهذه البلاد الطاهرة وماضيها الأشم وحاضرها الأتم بإذن الله.