محمد بن عيسى الكنعان
في العام 2005م، أدلت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد بوش (الابن) بتصريح خطير في سياق حديثها عن (الشرق الأوسط الجديد) لفرض القيم الديمقراطية في العالم العربي كما حدث في العراق العام 2003م. وذلك من خلال نشر (الفوضى الخلاّقة) في المنطقة. فهل ذلك التصريح يُفسر شيئاً من حالة الاضطراب، التي تعيشها منطقتنا العربية منذ مطلع العام 2011م؟ على خلفية حروب سابقة.
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال القلِق، أشير إلى أن (الشرق الأوسط الجديد أو الكبير)، هو مشروع أمريكي سياسي، و(الفوضى الخلاّقة) هي الأداة لتنفيذ هذا المشروع، الذي تعود فكرته الأصلية إلى المفكر الأمريكي من أصل بريطاني الدكتور برنارد لويس، وهو مؤرخ ومستشرق يهودي ولد في لندن العام 1916م، وحصل على الدكتوراه العام 1939م، وعمل في الجيش والاستخبارات، وهو من أشهر مؤرخي تاريخ الشرق الأوسط، حيث عمل أستاذاً لدراسات هذا الشرق في جامعة (برنستون)، كما أنه متخصص بالفرق والجماعات الإسلامية، والتاريخ الإسلامي بشكل عام، ويتمتع بعلاقات مع دوائر الاستخبارات الغربية والصهيونية العالمية.
تحدث لويس عن مشروعه للشرق الأوسط الكبير عقب قيام دولة إسرائيل 1947م، خصوصاً أنه متعصب لدينه اليهودي، وله ارتباط بالحركة الصهيونية العنصرية، ويكره الإسلام ويحتقر العرب والمسلمين، لذا دائماً يصفهم بالتخلف والرجعية؛ لأنهم لم يتبعوا الغرب حضارياً، كما أن برنارد لويس أول من طرح فكرة (صراع الحضارات) العام 1964م، أي قبل المفكر صامويل هنتنجتون الذي طرحها العام 1993م واشتهر بها، حتى إن لويس نجح في إقناع إدارة بوش (الابن) بتلك الفكرة، وبأن العرب والمسلمين يكرهون أمريكا، ليس بسبب انحيازها ودعمها لإسرائيل، إنما لحقدهم على الحضارة الغربية وكرههم لقيمها، وهذا يفسر ربط بوش (الابن) ما بين الحضارة الغربية وموقف المسلمين السلبي منها في خطاباته السياسية. بل يزعم لويس أن الإسلام في حالة عداء مع المسيحية. لذلك استغل أحدث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، في تشويه التاريخ الإسلامي مستغلاً جهل الأمريكيين بهذا التاريخ، ومركزاً جهوده الفكرية وتصريحاته الإعلامية على ترسيخ فكرة (الإرهاب الإسلامي). خصوصاً أن لويس لديه قدرة كبيرة على قراءة المشهدين العربي والإسلامي، وتحليل بنية المجتمع العربي المسلم ثقافياً، ومذهبياً، وفكرياً.
أساس فكرة مشروع لويس عن (الشرق الأوسط الكبير) هي أن يكون بديلاً عن الوطن العربي والعالم الإسلامي، وذلك بتفتيت الدول العربية والإسلامية، بما فيها إيران، وأفغانستان، وباكستان، وتركيا إلى دويلات، من خلال اللعب على (المذهبية) داخل المذهب الواحد، و(الطائفية) بين المذاهب الإسلامية. حيث ركزّ المشروع على ثلاث دول مركزية هي: (مصر، والعراق، وسوريا)، وثلاث دول في الأطراف هي: (اليمن، والمغرب، والسودان). هذا المشروع الخطير تحوّل فعلياً من خطط وتصورات إلى برامج وإجراءات عمل؛ ففي مطلع الثمانينيات الميلادية بدأ برنارد لويس وضع مخطط مشروع تقسيم العالم العربي، وفي العام 1983م، وافق الكونغرس الأمريكي على هذا المشروع. في ذات السياق؛ قال زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد كارتر العام 1980م: «إن المشكلة التي ستعانيها الولايات المتحدة من الآن؛ هي كيف يمكن إحداث حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى، التي حدثت بين العراق وإيران، بحيث تستطيع أمريكا من خلال هذه الحرب إعادة رسم حدود (سايكس بيكو)». من تاريخ هذا التصريح عاشت المنطقة العربية أكثر من حرب وعانت أكثر من اضطراب، حرب تحرير الكويت 1990م، وغزو العراق 2003م، وعدوان إسرائيل المتكرر على لبنان وفلسطين خلال الفترة (2005 - 2014م). ثم ثورات ما يُسمى الربيع العربي بدايةً من 2011م وحتى الآن.
الدول العربية المركزية المستهدفة في مشروع لويس تعيش اليوم أزمات حقيقية، ويكفي التركيز على العراق وسوريا، من حيث استهدافهما في مخطط التقسيم. يقول لويس صاحب هذا المشروع في شهر مايو 2002م، أي قبل الغزو الأمريكي للعراق: «العراق دولة مصطنعة وليست حقيقية، واحتلاله سيكون فرصة لتصحيح الخطأ، الذي ارتكبه البريطانيون»، أي تفكيكه إلى عدة دويلات بحسب الطبيعة السكانية، وحسب الانتماءات الدينية والعرقية. أما هنري كيسنجر ثعلب السياسة الأميركية فقال العام 2004م: «العراق يسير باتجاه يوغسلافيا السابقة». يعني نحو التفكك ثم التقسيم.
ولكن السؤال الحاضر؛ إذا كان العراق قد تمت الإطاحة به لصالح هذا المشروع، من خلال العدوان والاحتلال الأميركي، فكيف الحال بالنسبة للدول العربية الأخرى وخصوصاً المحورية؟ هنا يأتي دور (الفوضى الخلاّقة)، التي أشارت لها كونداليزا رايس أثناء حديثها عن (الشرق الأوسط الجديد). هذه الفوضى تعني إحداث فوضى أمنية متعمدة في منطقة ما؛ لإيجاد حالة سياسية معينة. ويعتبر روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمؤسسة (واشنطن لسياسات الشرق الأدنى) أحد أبرز منظري هذه النظرية الاستعمارية. كما أن مايكل ليدين من معهد (أمريكان إنتر برايز للدارسات) يُعد أول من صاغ مصطلح الفوضى الخلاّقة، مثلما صاغ مفهومها العام 2003م، تحت تعبير: (التغيير الشامل في الشرق الأوسط). ولهذا لقيت اهتماماً من مراكز الأبحاث الإستراتيجية الغربية وبالذات الأمريكية.
من هنا؛ يرى محللون سياسيون أن هذه الفوضى وُلدت بالفعل خلال العدوان الأميركي على العراق، وشبت على الطوق في ثورات ما يُسمى الربيع العربي. فلقد نشرت صحيفة (الديار اللبنانية) في عددها الصادر بتاريخ 22 يوليو 2007م، تقريراً من باريس عن محاضرة لريتشارد باركر - وقد عمل سفيراً لأمريكا في لبنان - قال فيها: « إن الرئيس جورج بوش (الابن) سيعمل خلال الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية على وضع أسس ثابتة لمشاريع خرائط طرق لمنطقة الشرق الأوسط تنطلق من تطلعات القسم الأكبر من ممثلي الأقليات الدينية كالأقباط، والمذهبية كالشيعة، والعرقية كالأكراد، التي تتمحور كلها حول ضرورة منح الحكم الذاتي لهذه الأقليات عبر إقامة أنظمة حكم ديمقراطية فيدرالية بديلة للأوطان والحكومات القائمة».
أما فكرة هذه الفوضى فتعتمد في الأساس على مفهوم (فجوة الاستقرار) في أي مجتمع عربي، وهو مفهوم أطلقه المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون للتعبير عن شعور المواطن العربي ما بين واقع يعيشه، وبين ما ينبغي أن يكون، بحيث تتسع هذه الفجوة الاجتماعية بين القاعدة الشعبية والقيادة السياسية، حتى تصل إلى زعزعة الاستقرار السياسي ثم الانفجار. وهذه الفجوة تحدث عبر توجيه غير مباشر لوسائل الإعلام العربي ومواقع التواصل الاجتماعي نحو تأجيج الشعوب العربية، من خلال الاعتماد على مراكز دراسات ومعاهد ومؤسسات بحوث علمية نجحت في اختراق المجتمعات العربية مثل: مؤسسات راند الأمريكية، وكارينجي للشرق الأوسط، وروكفلر، والمركز الثقافي الأمريكي، وغير ذلك. حيث تستخدم هذه المراكز والمؤسسات البحث العلمي وقياسات الرأي في اختراق المجتمعات ورصد تحولاتها، والتجسس عليها. ولعل هذا ما حدث في أكثر من بلد عربي قبيل وأثناء ثورات ما يُسمى الربيع العربي.
تبقى الإشارة إلى أن مشروع لويس ووعد رايس عن (الشرق الأوسط الجديد أو الكبير) لم يكن المشروع الأول الذي كان يستهدف وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، فقد كان هناك مشروع (جابو تنسكي)، وهو أول مشروع لتفتيت المنطقة، الذي قدمه زئيف فلاديمير جابو تنسكي أحد قادة الحركة الصهيونية العام 1937م، وكان تحت عنوان: (الكومنولث العبري)، ويتمثّل المشروع في إقامة دولة إسرائيل الكبرى، بحيث يدور في فلكها الجغرافي دويلات عربية مقسمة مذهبياً، وعرقياً، وطائفياً، وترتبط بدولة إسرائيل أمنياً واقتصادياً. كذلك كان هناك مشروع الدبلوماسي غوريد مينون مدير مكتب الصهيوني مناحيم بيجن، وقد طرحه العام 1974م، أي بعد انتصار العرب العام 1973م، حيث تقوم فكرته على احتلال سيناء ومدن مصرية ما يؤدي إلى تقسيم مصر إلى دويلات إسلامية، وقبطية، ونوبية، مع إعادة رسم المنطقة وتقسيمها بعد إدخالها في حروب إقليمية وصراعات داخلية بدايةً من العراق ثم يتم تقسيم الدول العربية والإسلامية.
بعد هذا العرض عن مشروع الشرق الأوسط الكبير هل يحق لنا أن نتساءل عن ماذا تم حتى الآن؟ الصورة العربية قاتمة والمشهد مفجع، فالعراق أصبح فارسياً، وسوريا تمزق نسيجها ودُمرت حضارتها، ومصر خارج موازين القوة الإقليمية، ولبنان بيد حزب الله الموالي لإيران، وليبيا في صراع، وتونس في اضطراب، أما اليمن فيستعيد شرعيته بعد عاصفة الحزم المباركة ولله الحمد، ودول الخليج آمنة ولكنها ليست بمعزلٍ عن كل ذلك. ومن أراد الاستزادة فعليه بكتاب: برنارد لويس سياف الشرق الأوسط ومهندس سايكس بيكو 2 لمؤلفه عادل الجرجوي.