محمد بن عيسى الكنعان
في حواراتي الشفهية مع مثقفين وإعلاميين حول (الليبرالية)، أو خلال مناقشاتي مع عدد من المغردين في مواقع التواصل الاجتماعي عنها؛ لاحظت أنهم يضعون الليبرالية متلازمة للحرية، حتى انهم يتجاوزون تقارب الدلالة اللغوية إلى تطابق المضمون الفكري، والتعبير الواقعي.
بمعنى أنهم يرون الليبرالية مُعبّرة عن الحرية في الواقع المعاش. فكل موقف تتجلى فيه الحرية هو موقف ليبرالي، وكل ممارسة تتسم بالحرية هي صورة من صور الليبرالية، أو أحد تطبيقات قيمها. وهذا خلل فكري من عدة وجوه، الأمر الذي يتطلب فض الاشتباك بين الحرية والليبرالية في عقول أولئك المثقفين والإعلاميين والمغردين، أو من يرى رأيهم ويتبنى وجهة نظرهم.
أول وجوه ذلك الخلل؛ أن كلمة (الليبرالية) غير عربية في أصلها، فهي ترجمة للكلمة الإنجليزية LIBERALISM، ومعناها (التحررية)، المشتقة من الكلمة الإنجليزية LIBERTY، التي هي (الحرية)، من هنا جاء الارتباط اللغوي بين مفهوم الليبرالية وكلمة الحرية عند البعض، مع مراعاة أن كلمة LIBERTY أصلها لاتيني هو LIBER، وتعني طبقة الرجال (الأحرار). إذاً هذا التقارب اللغوي هو الذي أوجد الإشكال المعرفي لدى من يجعل الحرية هي الليبرالية أو العكس. وهذا خطأ منهجي، لأن هذا التقارب لا بُدَّ أن يعززه البعد التاريخي لليبرالية، ويصادق عليه مضمونها الفكري، والتطبيق الواقعي لقيمها. فهل تاريخ الليبرالية يؤكد أنها فعلاً كانت تُجسّد الحرية؟ وهل مضمونها الفكري يُحقق ذلك؟ وهل تطبيقات قيمها اليوم بالنسبة للدول والأنظمة الليبرالية يبُرهن على أنها بالفعل تُحقق الحرية؟ قطعاً لا؛ بدلالة أنه لا توجد ليبرالية واحدة يمكن أن يُقاس على مدى اتفاقها مع الحرية، إنما هناك نماذج ليبرالية مختلفة، فهناك الإنجليزية، والفرنسية، والأمريكية، والألمانية وغيرها.
ثاني الوجوه؛ أن الحرية قيمة إِنسانية سابقة لليبرالية، وهذه القيمة موجودة في الثقافات، وقررتها الأديان، وعرفتها الحضارات قبل ظهور الليبرالية خلال عصور النهضة الأوروبية (من القرن الخامس عشر وحتى التاسع عشر الميلادي)، ولكن الفارق - كما يقول الدكتور خالد الدخيّل أستاذ علم الاجتماع السياسي في حوار بصحيفة (الجزيرة) - أن الغرب وضع الحرية في إطار نظرية سياسية واقتصادية عُرفت بالليبرالية. وهذا يعني أن الليبرالية وإن كانت تعني الحرية، أو تجسدها لدى الإِنسان الغربي؛ إلا أنها مرتبطة بتجربة الغرب الحضارية خلال مسيرته التاريخية، ومدى رؤيته للمعيار الحضاري، الذي يقيس فيه هذه الليبرالية لتحقق الحرية كقيمة إِنسانية، فهذا جون لوك الذي يعد الفيلسوف الأول لليبرالية كان تاجر رقيق!!
ثالث الوجوه؛ مفهوم الليبرالية ملتبس لدى كثير من الباحثين والمفكرين بحكم تعدده، ما أدَّى إلى نشوء إشكالية تتمحور في وجود لفظين عن الليبرالية ودلالتها، وهما الفردية (الفردانية) والحرية (التحررية). فإذا كانت الحرية واضحة الأبعاد لا تحتمل أكثر من معنى أو تفسير؛ فإنَّ الفردية هي أساس الإشكالية، فهل الفردية المقصودة في الأساس الفلسفي لليبرالية هي: (الفردية) مقابل (الجماعية)، أم هي (الأنا) مقابل (الغير)، في ذات السياق يقول الدكتور ياسر قنصوه في كتابه: (الليبرالية إشكالية مفهوم): «المعنى اللغوي للفردية (individualism)؛ يعني الفعل الفردي المعتمد على النفس، بينما المعنى اللغوي للأنا (selfishness) يعني المصلحة الذاتية أساساً للسلوك الأخلاقي».
رابع الوجوه؛ هو ما يتعلق بالتجارب التاريخية لليبرالية، وتطبيقاتها الواقعية المشاهدة حول العالم، فليس خافياً أن الاستعمار الغربي استعرت ناره بعد ظهور الليبرالية في بريطانيا مع ثورتها الدستورية العام 1688م، وهي ذات الليبرالية التي منحت اليهود فلسطين، ووقفت خلف مجازرهم المروعة، ولازالت تدعم دولة إسرائيل بالمال والسلاح. كما أن الليبرالية الأمريكية بعد إعلان الاستقلال في القرن الثامن عشر الميلادي، شاركت في إبادة الهنود الحمر، واحتلت الفلبين منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، أما الثورة الفرنسية التي تباهي بها الليبرالية الغربية فقد أهدت العالم نابليون بونابرت بغزواته المدمرة وحملاته الصليبية على البلاد العربية.
أما الشواهد الواقعية على أزمة الليبرالية مع قيمة الحرية فهي عديدة، أبرزها مسألة (الحرية الدينية)، بالنسبة الجاليات المسلمة الكبيرة في الدول الغربية، فقد زادت وتيرة (إسلام فوبيا)، وكثرت القضايا والمواقف المتطرفة ضد الإسلام، فمن ينسى قضية (الرسوم المسيئة) المتكررة، ومحاربة الحجاب، ورفض المآذن، ومحاولة حرق القرآن، ومعارضة بناء المساجد، والقائمة قابلة للزيادة في ظل ليبرالية غربية هي أساساً (متناقضة) في واقعها وإن كانت مثالية في فلسفتها، فالحرية الدينية لديها ناقصة العدالة وانتقائية الممارسة، فالليبرالية تحقق (التسامح) وتمنح ممارسة (الكراهية) في ذات الوقت ومع ذات الشيء، تنادي باستقلالية الأفراد وحماية حرياتهم وتمارس انتقائية القانون ضد أديانهم وحياتهم، وأبسط مثال موقف الليبرالية الأمريكية، التي أيدت إقرار قانون (معادة السامية)، ورفضت إصدار قانون يجرم الإساءة للأديان، وقس على ذلك كثير، ويكفي موقف الليبرالية اليوم من الثورة السورية، وكيف سكتت هذه الأنظمة الليبرالية على ما يجري من ذبح وتدمير للإِنسان السوري وفق حساباتها الإقليمية ومصالحها القومية.