د.محمد الشويعر
لقد مرّ بالجزيرة العربية فجوة زمنية: علمية واجتماعية وتاريخية، ما بين العصر العباسي الثالث، القرن الخامس الهجري، والدعوة، أسدل فيها الستار، وضاعت المعالم، إلا من وميض لا يروي نهمة المحقّق والمدقّق، حتى أذن الله بانبعاث نور جديد، صاحبته دعوة الإصلاح،
وتصحيح العقائد على يد الإمامين: محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب - يرحمهما الله - في القرن الثاني عشر بعد أن ران الجهل، وغشي على العقائد ما أفسدها، مما باعد عن صفاء العقيدة، ونقاوة العمل، في العبادة والاعتقاد.
وقد أوضح المؤرخان حسين بن غنام (... - 1225هـ) وعثمان بن بشر (1210 -1290هـ) نماذج مما أفسد العبادات والعقائد، من تعلّق بغير الله: بشراً أو جماداً أو غيرهما.. فَصَرف بعضُهم ما للخالق للمخلوق، مما ابتكره الفكر الخاوي.
وهذا في الأعم الأغلب، وإلا ففي البلاد علماء، ومنهم من ألّف في العقائد، لكن الحماسة في العقيدة لم ترتفع رايتها إلا في عام 1157هـ بيد الإمامين: محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب - رحمهما الله -.
أما الأخبار التاريخية فمع ندرتها لا يعدم المرء وجود نتف لا تروي ظمأ متطلّع، ولا تنبئ عن حالة علمية، ولا يقظة فكرية، وإنما هي فتن وحزازات، لا تستند إلى شرع عن الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، تشبه الجاهلية في أعرافها، عندما يبتعد الإنسان عن مناهج دين الله الحق.. كما أنه لا يوجد في البلاد حكومة شرعية، وإنما هي أعراف قبلية.
ومع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وعد ببشارة منه لأمته، أن يأتي في كل قرن مَن يجدد لهم الدين؛ لأن النبوّة قد ختمت به عليه الصلاة والسلام، ولا نبي بعده، فقد عادت الحياة القبلية إلى سابق عهدها، لانفصام عامل الأمن.
في تلك الفترة عادت الحياة القبلية لسابق عهدها لانفصام رابطة الأمن، ولا مرجعية شرعية، وتغلّبت الأثرة والنوازع وحمية الجاهلية، وحصلتْ فتن وخوف، وتسلط القوي على الضعيف، وتماثل قول الشاعر الجاهلي:
وأحياناً على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
فكان عام 1157هـ فاتحة خير؛ إذْ اتفق الإمامان - يرحمهما الله - على تجديد الدعوة لدين الله في حركة تصحيحية لإصلاح العقيدة في الجزيرة العربية؛ لأن من عون الله في ذلك أن كانت محمية من المستعمر، الذي امتد للعالم الإسلامي، يمتص خيراته، ويبث فيه منهجه في عداوته للإسلام، وعداوتهم لقيمه وتعاليمه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} سورة البقرة، الآية 120.
فصارت صدور أبنائها بكراً، تنتظر من يوقظها من غفلتها؛ لتصحح المسار، وتلحق بالركب، وتنفض غلالته التي غشيتها حيناً من الدهر، وهيأ الله هذا الدور الإصلاحي من الإمامين: محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب - يرحمهما الله -، نوراً شعت أنواره من الدرعية؛ لتتسع دائرته من جميع الجهات؛ ما أحدث أصداء واسعة، وفرح بهذا الانبعاث كل من كان متشوقاً لإصلاح ما ران على القلوب، وراغباً في سلامة المعتقد: عقيدة وعملاً؛ لأن دين الله يُسْر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه.
لكن - وحسب ما جاء عن الله سبحانه في الآية السابقة - جاء الخصوم بسعي حثيث؛ لإطفاء هذه الشمعة المتوقدة، المنبعثة من عند بيت الله المحرم، ومن مهد العروبة، التي طهرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأوثان وأواصر الجاهلية، وسعى أعداء دين الله الحق بعددهم وعدّتهم لإسكات هذا الصوت التصحيحي، بقوّتهم المادية، وصَحِبَ مادّيتهم قوّة إعلامية محاطة بالتشويه والتنفير، مع الكذب والافتراء، ولا مزاحم لصوتهم هذا.
خَلا لَكِ الجوّ فبيضي واصْفرِي
ونقّري ما شئت أن تنقّري
هُدِمتْ الدرعية المزدهرة (عاصمة هذه الدعوة) عام 1234هـ، وشُرّد أهلها، غير من قُتل، لكنّ هَدْم المباني، واقتلاع الأشجار، ومطاردة العلماء، وتهجيرهم، فضلاً عمن قُتل، مع نهب أو إحراق المكتبات، لا يقضي على العقائد التي في الصدور، ولا الحماسة المتأججة بين الجوانح، ولا الكذب والافتراء بالذي ينتصر به الباطل وأعوانه في سعيهم ومحاولاتهم لإسكات صوت الحقّ.
ولئن برّر الغزاة وأصحابُ الأهواء أعمالهم.. فإن الحق أبقى وإن طال الزمان به.
يصدّق تلك الافتراءات حالة واحدة لم تُرِد البحث عن الحق لذات الحق، ما حدث من حوار بين أحد تجار جدة وأحد العلماء في الدور الثاني من أدوار الدولة السعودية، التي كانت راعية الدعوة ومناصرتها، وتعتبر أول دولة بمفهومها العام في وسط الجزيرة العربية، قامت على تصحيح العقيدة، والتصحيح الديني، والإصلاحي منذ عام 1157هـ.
هذا الحوار تم بين التاجر بجدة عبدالقادر التلمساني المتوفى عام 1235هـ تقريباً والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى المتوفى عام 1225هـ، الذي سكن مكة ودرس في الحرم، فكان الأخير يتعيش من التجارة، ويتعامل مع الأول بالمقايضة، أي يعطيه بعض القيمة، ويؤجل الباقي لمدة معينة، وهكذا استمر التعامل بينهما مدة طويلة: بالصدق والأمانة وحسن الوفاء.. وفي يوم من الأيام قال عبدالقادر للشيخ أحمد: لقد تعاملت مع الناس أربعين عاماً، وما وجدت أوفى وأصدق منك يا شيخ أحمد، والناس يسمونكم (وهابي) بدين جديد، وأنا متخرج من كلية أصول الدين بالأزهر، فأحب النقاش معكم؛ لأعرف حقيقة ما أنتم عليه، وبحوار هادئ ومقنع.
فتم ذلك، وأحضر الشيخ جميع رسائل وكتاب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقرآها معاً، وقال الشيخ له: هذا ما نسير عليه: وفق كتاب الله وسنة رسوله، ولا نحيد عنهما، وما نُسب علينا فهو من الافتراء، ولا نرد عليهم إلا بقوله سبحانه: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} سورة النور، الآية 16.
فقال التلمساني: وهذا هو الدين الحق، الذي ندين الله به. وتحقق من سلامة هذه الدعوة؛ فشرحه عن قناعة لتجار جدة ومكة الذين يتعامل معهم فأيدوه، وكان يذهب لمصر، ويطبع كتب السلف، والشيخ محمد، ويوزعها في جدة.. وفي مكة ممن اقتنع بالدعوة مثله كالشيخ أبي بكر خوقير، وهو صاحب مكتبة، فكان يذهب للهند، ويتصل بأهل الحديث، ويطبع كتب السلف وكتب الشيخ ليوزعها في مكة، وبالقناعة اتسعت الدائرة السلفية التصحيحية في الحجاز.
ولإخلاص طلبة العلم والسلفيين في الجزيرة العربية رسختْ العقيدة في الأذهان، وانتشرت في كلّ مكان بالشعر المنظوم، كما حصل في منظومة الشيخ ابن دعيج في مسيرته مع جيوش الغزاة ضد الدعوة، في منظومته أو ملحمته في تأبيد الدرعية، وما حلّ بها، وأهلها، التي وصل إلينا منها (130) بيتاً، قد نشرتها في مجلة الدارة عام 1403هـ.
وقصائد أخرى، منها منظومة، أو ما يسميها بعضهم (ملحمة الدرعية) للاثنين في منظومتيهما أحمد بن دعيج والشيخ علي بن حسين آل الشيخ، الذي وصلنا من منظومته (86 بيتاً)، سماها وقعة الدرعية، وقد بكيا فيهما الدرعية، وما مرّ من محنة وتخريب.
لكن من نصر دين الله نصره سبحانه {إِن تَنصُرُوا اللَّه يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} سورة محمد، الآية 7.
فقد علم الله صِدْق النوايا من آل سعود وثبات آخرهم على ما تحتويه معاهدة أولهم، الإمام محمد بن سعود مع الإمام محمد بن عبدالوهاب، وتصحيح المسار الدعوي، فيما يرفع راية التوحيد والدعوة إلى تنقية العبادات مما خالفها، فما لله لله، وما لدينه ينقى ليصبح خالصاً لله، ونبذ الشركاء؛ لأن الله بريء من الشرك، ولا يقبل إلا ما كان خالصاً له سبحانه: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) حديث قدسي.
فقد تحقق لدولة آل سعود أن تنهض بعد الكبوة، وأن يتعهد باني كيانها، وجامع شمل الرعية، في دورها الثالث: الملك عبدالعزيز - رحمه الله -، فبدأ منذ عام 1319هـ في لمّ الشتات، مع رفاق دربه الذين رحبوا بمقدمه، وساندوه حتى أتم مسيرته، وأصدر أمره في عام 1352هـ بتوحيد المملكة تحت مسماها الجديد، الذي يعبر عن الاجتماع والتلاحم، وصِدْق الولاء: (المملكة العربية السعودية). ومن ذلك الوقت توحدت القلوب، وقضي على النزعات القبلية.
ثم اتجه للبناء والتعليم، وسار أبناؤه على منهجه، بالإخلاص والصدق، وأول البناء إعمار الحرمين الشريفين؛ إذ بذل فيهما من المال والجهد والاهتمام ما يفوق الوصف، منذ عام 1343هـ حتى الآن، وكل عام تتجدد الأعمال والمشروعات. وقد امتن الله بخيرات الأرض؛ فاستغلت لصالح الوطن والمواطن، فتغيرت بالمشروعات الجديدة، وارتفع المستوى التعليمي في فترة وجيزة، وتكاثرت الأعمال في كل ميدان من ميادين الحياة.
وقد دفع الله سبحانه بالصدق معه والنية الحسنة عن البلاد شروراً كثيرة، وآفات أرادها الأعداء حسداً من عند أنفسهم.
نسأل الله أن يديم علينا عزنا بالإسلام، ورفع رايته، ويديم علينا أمننا، وأن يوفق قادتنا لما فيه خير صلاح البلاد والعباد، والدفاع عن سلامة العقيدة، والنصر والتوفيق للمسلمين.
والله الموفق.