د. عبدالحق عزوزي
في هاته المقالة سأستحضر وإياكم بعض الذكريات الأخرى التي جادت بها قريحة ولي عهد الصحافة الأستاذ خالد المالك في حق مليك القلوب الراحل الملك عبدالله، في إطار أنشطة مهرجان الجنادرية الأخير.
وهاته الذكريات نسج فيها الأستاذ مالك الأفق السعودي بامتداداته وتشعباته، وجال في سماء العالم بمداده الواسع، وجمع فيها تحليل المُنظِّر، وحصافة المُجرِّب، وإدراك رجل الأقدار...
«فمن بين ما أتذكره من رحلاتنا مع الملك عبدالله في زياراته لدول العالم تلك المواقف التي لا يمكن أن أنساها، فحين قام بزيارة للصين، واصطحب معه بعض رجال الأعمال إلى تلك الرحلة، وقد تم لقاؤه بهم هناك ضمن ترتيب مسبق أعدته المراسم الملكية بناء على رغبتهم -على ما يبدو- لإبداء آرائهم حول ما يعنيهم في الشأن الاقتصادي والصناعي والتجاري، خاصة وأن الملك عبدالله كان صاحب مبادرة غير مسبوقة بتمكينه لهم من الاتفاق مع شركائهم الصينيين على التعاون وتفعيل الشراكات تحت مظلة الحكومتين السعودية والصينية، لكن هذه الفرصة لم يشأ أن يفوتها دون أن يثير الحس الإنساني والعاطفي والوطني في رجال الأعمال، وذلك عندما ذكرهم بالفقراء في المملكة، ومسؤولية رجال الأعمال في تلمس احتياجاتهم والتعرف على أوضاعهم ومساعدتهم بما يخفف من الوضع الذي يعيشه المحتاجون أينما وجدوا. هذه اللمسة الحانية، تعيد إلى الذاكرة زيارته عندما كان ولياً للعهد للأحياء الفقيرة بالرياض وتفقدها والالتقاء بالفقراء والمحتاجين فيها، دون أي ترتيبات مسبقة، أو حشد إعلامي لتغطيتها، وهو إجراء يشخص الجانب الإنساني لدى الملك عبدالله، ويشير إلى أنه لم يكن يكتفي بالتقارير والمعلومات التي تصله على الورق، بل كان يضيف إلى زياراته للأحياء الفقيرة زيارات أخرى للأسواق الكبيرة (المولات) يتفقدها ويشرب ويأكل فيها ويتحدث مع المواطنين الموجودين مصادفة لحظة زياراته لها في أكثر من مدينة.....تذكرون قصة الوادي المتصدع في جيزان الذي أزعج الملك عبدالله قبل الأهالي والمتضررين أنفسهم، فقد كان الملك عبدالله في زيارات رسمية، اختتمها في سويسرا، عندما أعلن عن اكتشاف المرض، ومن هناك لم يعد إلى الرياض مثلما كان مقرراً، وإنما عاد إلى المملكة عبر جيزان -محطته الأولى- ليقف بنفسه على الحالة هناك، وكنا معه بنفس الطائرة على غير العادة، حيث كنا في الفترة الأخيرة نستخدم الطائرة المرافقة في رحلاته برغبتنا، بينما كانت مقاعدنا من قبل بنفس الطائرة الملكية، يومها أتى إلينا رئيس المراسم الملكية محمد الطبيشي مرسولاً من الملك عبدالله وقال لنا ونحن في الجو: لدي رسالة من خادم الحرمين الشريفين مفادها لماذا عدلتم عن ركوب الطائرة الملكية هل من أسباب، أضاف وحسب التوجيه الكريم الملك يريد معرفة الأسباب، كان الجواب أنه لا توجد أي أسباب، ولكن رؤساء التحرير قد يكونون مثقلين بأجهزة التصوير والتسجيوأجهزة الكمبيوتر مما رأوا أن استخدام الطائرة المرافقة توفر لهم المرونة والحركة في أداء عملهم، هذا الموقف وهذا السؤال لمن يعرف عبدالله بن عبدالعزيز لا يستغربه، فهو ينم عن تواضع وأريحية ونبل وهي ضمن ما كان يتصف بها هذا الملك من صفات... وبعد أن تلقى الملك عبدالله إجابة رؤساء التحرير، وعرف أنه لا أسباب أخرى غيرها، وأنه لا توجد أي مضايقات أو معوقات حالت بيننا وبين أخذ مقاعدنا بالطائرة الملكية، جاءنا مرسول آخر منه ومعه مجموعة من الحبوب المضادة لمرض الوادي المتصدع، ووصية شخصية منه - رحمه الله - باستخدامها قبل الوصول إلى جيزان، ضمن الاحتياطات التي حظي بها رؤساء التحرير ضمن الوفد المرافق، ومثل هذه اللمسة الحانية تنسجم مع ما يتسم به الملك عبدالله من عاطفة وإنسانية نحو الآخرين.» فهاته صفات الملك الإنسان التي فيها يشعر الإنسان بإنسانية ووطنية وحب الملك لبلده ومواطنيه... ثم يسترسل الأستاذ خالد المالك «وعندما كان رئيساً للحرس الوطني، وقبل أن يكون ملكاً أو ولياً للعهد، كان الحرس الوطني يقيم مناورة عسكرية سنوية في إحدى مناطق المملكة للتأكد من جاهزية رجال الحرس الوطني العسكريين، وكان يشرف عليها بنفسه، ويدعو رؤساء التحرير إلى قضاء يومين أو ثلاثة بين أصوات المدافع وحركة الآليات والمركبات العسكرية، وخلال ضيافته لنا كنا نشعر بأن عبدالله بن عبدالعزيز يعطي اهتماماً بنا وتقديراً لدور الصحافة، وكان هذا واضحاً ومفهوماً لنا وهناك ما يشير إليه، فقبل تناوله والحضور طعام العشاء أو الغداء تكون هناك جلسة له في مخيم الجلوس، يحضرها شيوخ القبائل وأمراء الأفواج وغيرهم من المواطنين، وقبيل الانتقال إلى المخيم الآخر المعد لتناول الغداء أو العشاء، يأتي إلى رؤساء التحرير بتوجيه كريم منه من يقوم بمرافقتهم إلى المكان ليكونوا على يمين أو يسار الملك عبدالله، فإذا استقر رؤساء التحرير كل في مكانه، تحرك الملك يرافقه بقية الحضور من شيوخ القبائل وأمراء الأفواج وغيرهم ليكونوا بالجهة الأخرى من مكان عبدالله بن عبدالعزيز، إذ بدون هذا الترتيب الذي كان يوجه به، ما كان لرؤساء التحرير أن يكونوا قريبين منه، وأكثر من ذلك فإنه يصطحبهم دون غيرهم إلى مجلسه المختصر بعد تناول العشاء أو الغداء في صالون متحرك أعد ليكون جلسة خاصة يتم فيها مناقشة القضايا والموضوعات التي لها شيء من الاهتمام لديه بينه وبين رؤساء التحرير. ومن بين ما يظربساطة وتواضع الملك عبدالله ذلك الموقف الذي أثار الناس في هونج كونج، فأثناء زيارته لهذه الجزيرة الجميلة، فوجئ من كان يسكن في ذات الفندق الذي كان يسكنه الملك، نزوله من جناحه الخاص إلى دور الاستقبال (أو ما يُسمى باللبي) حيث محل القهوة (أو ما يُسمى بالكوفي شوب) ليحتسي قهوته مع من كان موجوداً بالمصادفة، دون أي ترتيبات أو استعدادات، وكان رؤساء التحرير أو بعضهم ضمن الموجودين، الموقف بقدر ما أثار الانتباه لصورة ملك لم تكن في ذهن أي من الحضور، بقدر ما كان حديث الحضور وذهولهم مصحوباً بالإعجاب لهذا الموقف من عبدالله بن عبدالعزيز... أكتب هذه الومضات المشرقة عن ملك لم يعد موجوداً بيننا، بما لم يعد أن يُقال عنه إلا مثل هذه الذكريات الجميلة، وهي من الذاكرة التي لا تحتفظ بكل شيء، ولا تساعد على ذكر كل التفاصيل، ولعلكم تذكرون ما قاله للوزراء في إحدى رئاساته لجلسات مجلس الوزراء، عندما طالبهم بأن يسألوا الله أن يطيل في عمر طويل العمر، فلم يفهم أي من أعضاء مجلس الوزراء الشخص المعني بذلك، ليأتي التفسير منه على أن المقصود بذلك هو البترول الذي تعتمد عليه المملكة في برامجها التنموية»
من خلال تدبرنا لهاته الذكريات اللطيفة التي لا يمكن أن تسمع إلا في هاته المناسبات، ومن أفواه مثل هؤلاء الرجال، يحق لنا أن نقول أن الملك عبدالله من بين أولئك الذين ناضلوا عن أصالة بلدهم ووطنهم ووحدة لواء العروبة والإسلام، وسهروا على إرهاف وعي الخاص والعام وإزاحة رواسب ليالي المحنة والمرهقة بصراع القوى ومعترك المذاهب وصدام التيارات، ويظلون في موقعهم من ميدان الجهاد، حتى إذا توفوا بقوا أحياء عند ربهم يرزقون {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، فمثله وإياه كما قال الراثي:
جلت رزيئته فعم مصابه
فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد
في كل جار رنة وزفير
ردت صنائعه عليه حياته
فكأنه من نشرها منشور
سيثنى عليك لسان من لم توله
خيرا لأنك بالثناء جدير