أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
كان أمام مؤلِّف كتاب «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود» أحد خيارين، إنْ أحبّ أن يكون باحثًا جادًّا لا عابثًا: إمّا أن يكذِّب نصوص «القرآن الكريم» البيِّنة في مكانة (آل داوود) العظيمة في (بني إسرائيل)- مضيفًا ذلك إلى تكذيبه السابق لـ«التوراة» كي ينتهي منهما معًا جملةً واحدة- أو أن يكذِّب نفسه! فلا تجتمع دعواه واستشهاده بـ»القرآن» في كتابٍ واحدٍ، مهما لجأ إلى أنابيب الانتقاء والاجتزاء والتأويل. غير أنه- ديدنَ هؤلاء المؤرّخين الجُدُد المتناسلين- إنما يتبع منهاج انتقاء ما يريد حين يريد، ممَّا يخدم أفكاره، متخطِّيًا ما سواه. بدليلٍ لافتٍ للقارئ، هو أنه، مثلًا، لا يعرِّج في كتابه على علاقة (سليمان) بالملكة (بِلقيس)؛ لأن هذا يتنافى مع زعمه أن مملكة سليمان هي محض زعامة على عشيرة من البطّالين، يعيشون في مغارة، وأن عشيرتهم هي أكثر العشائر البدويَّة تخلّفًا في بريّة العرب، كانوا عالةً على الآخَرين، لا صناعات لهم، وأن نفوذهم لا يعدو حدودهم الضيِّقة، (ربما حدود مغاراتهم)! وهذا مناقض تمامًا لجميع ما ورد عن مملكتَي داوود وسليمان في «التوراة» و»القرآن». وعليه، فإن مصطلح «مدينة» في «التوراة» قد لا يعدو الإشارة إلى «مغارة»؛ فـ(أورشليم) كانت مجرّد مغارة- بزعمه- في بلاد غامد!(1) فما أعجب العمَى الإديولوجيّ وما يصنع بعقول أهله!(2) وإلّا فلقد كان عليه إمّا أن يكفّ عن الاستشهاد بـ«القرآن»، أو أن لا يناقض ما جاء فيه، ولو لأسباب تاريخيَّة؛ إذ ما كان «القرآن» من جملة ما يكرِّر عزوه إلى الصهاينة والاستشراق الاستعماري الذي زوَّر تاريخنا العربي القديم!
وبذا يتبيَّن أن هذا الصنيع من التقليل من تاريخ بني إسرائيل هو النقيض الدُّغمائي لذلك الصنيع التوراتي من التهويل من ذلك التاريخ؛ يَؤُزّ الصنيعَين أزًّا إلى المبالغة التعصُّبُ السياسي الأعمى. الأوَّل صنعَ من ذلك التاريخ مَحْضَ عشيرةٍ من الحُفاة العُراة الذين يعيشون في مغارات، والآخَر صنعَ من ذلك التاريخ ممالِك خُرافيَّة، وجيوشًا أُسطوريَّة، وعُمرانًا إعجازيًّا، ممّا لم يعثر عِلْم الآثار له إلى اليوم على أثر! أمّا القول التاريخي المتجرِّد من الأغراض، فهو القول: إن بني إسرائيل- كما تتظافر الشواهد والأحداث والأخبار- قد أُوتوا من الطيِّبات حقًّا، وفُضِّلوا بأعلام الأنبياء والحكماء، ونُصِروا على كثيرٍ من معاصريهم، وأُوتوا من المُلك العظيم، بمقاييس زمنهم، وعُرِفوا تاريخيًّا ببعض الصناعات النوعيَّة. وهذا القول هو ما يسجِّله «القرآن» عن بني إسرائيل، غير مزدرٍ شأنهم، ولا بالغٍ بهم في المقابل عنانَ السماء، كما تُمعن «التوراة».
ولقد أمعن مؤلِّف هذا الكتاب إمعانًا نابيًا عن المعقول في لَـيِّ أعناق النصوص اعتسافًا. من ذلك ما نسبه غلطًا إلى (سِفر الملوك الثالث)!- وليس في «العهد القديم» سِفر بهذا العنوان أصلًا!- من أن ما ورد في النصِّ القائل: «عَمِلَ المـَلِكُ سُلَيْمَانُ سُفُنًا فِي عِصْيُونَ جَابَرَ، الَّتِي بِجَانِبِ أَيْلَةَ، عَلَى شَاطِئِ بَحْرِ سُوفٍ، فِي أَرْضِ أَدُومَ. فَأَرْسَلَ حِيرَامُ فِي السُّفُنِ عَبِيدَهُ النَّوَاتِيَّ الْعَارِفِينَ بِالْبَحْرِ مَعَ عَبِيدِ سُلَيْمَانَ، فَأَتَوْا إِلَى أُوفِيرَ، وَأَخَذُوا مِنْ هُنَاكَ ذَهَبًا، أَرْبَعَ مِئَةِ وَزْنَةٍ وَعِشْرِينَ وَزْنَةً، وَأَتَوْا بِهَا إِلَى الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ.»(3)، هو إشارة إلى أماكن في (بلاد غامد) وما جاورها! قائلًا في غضون ذلك إن «بحر سوف»- أو «بحر القلزم» حسب الترجمة التي اعتمد عليها- ليس بـ(البحر الأحمر)، بل هو نهر كان هناك في مكان ما من بلاد غامد أو ضواحيها! إلى آخر ما أدلى به من تلفيق.(4) وما سمعنا أنها كانت في شِبه الجزيرة العربيَّة أنهار في القرن العاشر قبل الميلاد، بل جداول مائيَّة وأودية. ولقد نسي هنا ما ورد من الإشارة إلى «السُّفن»: «فَأَرْسَلَ حِيرَامُ فِي السُّفُنِ عَبِيدَهُ النَّوَاتِيَّ الْعَارِفِينَ بِالْبَحْرِ مَعَ عَبِيدِ سُلَيْمَانَ...». أو يبدو أنه قد صدَّق- إلى جانب تصديقه أن الأودية المحيطة بسَراة غامد كانت أنهارًا بل بحارًا- أن الناس كانوا يمخرون تلك الأودية على متون السُّفن! وما الغريب، ما دام قد صدَّق نفسه «الأمّارة بالتاريخ»: أن نهر (الفُرات) هو وادي (ثَرَاد)، في محافظة (العقيق) بمنطقة (الباحة)، وأنه ينطبق عليه الوصف التوراتي: «وَيَكُونُ السَّمَكُ كَثِيرًا جِدًّا... وَيَكُونُ الصَّيَّادُونَ وَاقِفِينَ عَلَيْهِ. مِنْ عَيْنِ جَدْيٍ إِلَى عَيْنِ عِجْلاَيِمَ يَكُونُ لِبَسْطِ الشِّبَاكِ، وَيَكُونُ سَمَكُهُمْ عَلَى أَنْوَاعِهِ كَسَمَكِ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ كَثِيرًا جِدًّا...»!(5)
إن التار يخ حين يحوَّل إلى بُوق سياسة، وإلى خطابٍ قوميٍّ متعصّب، يغدو أضحوكة الأزمان، ولا يُعيد إلينا سوى مأساة هذا العِلْم، الذي ظلّ يكتبه المؤرِّخ، طيلة التاريخ، وسيف السلطان على رقبته، وها هو اليوم يكتبه وسيف الإديولوجيّات على رقبته. والإديولوجيّات أفتك بالعقول من السلاطين. ولا يستقيم شأن عِلْمٍ دون رفع الوصاية السياسيَّة والفكريَّة عنه، ودون تجرّدٍ بحثيٍّ تامٍّ، مهما أفضى البحث إلى نتائج صادمة لعقائدنا ومسلَّماتنا وعواطفنا، وإلّا فهو مِذياع، إذن، لا يمتّ إلى البحث العِلْمي الصحيح بصِلة، وسيغدو التاريخ حينئذٍ شعوذة، كلٌّ يوظِّفها في مصلحته، ادِّعاءً واستعلاءً.
وبناءً على ما تقدَّم يذهب المؤلِّف إلى أن (أورشليم)، أو (بيت المقدس)، يقع في سَراة غامد؛ فثمَّة (المسجد الأقصَى) «الحقيقي»، الذي بارك الله حوله، وهناك ثالث الحرمَين الشريفَين، وموطن الأنبياء والرسل! وقد احتجَّ تاريخيًّا بأن المسجد الأقصَى في (فلسطين) إنما بُني في العهد الأمويّ!(6)
والحقّ أنه قد سبقَ (أحمدَ داوود) ولَحِقَه إلى مثل هذه الهرطقة آخرون، من إسرائيليِّين وعرب ومستشرقين. ومن بين هؤلاء (أهارون بن شيمش)، الذي تولَّى ترجمة القرآن إلى العبريَّة، على الطريقة اليهوديَّة المعروفة تاريخيًّا في الأمانة النصِّيَّة! ومنهم المؤرِّخ الصهيوني (مردخاي قيدار Mordechai Kedar)، الأستاذ بجامعة (بار إيلان) في الكيان المحتلّ، والباحث في (مركز بيجن- السادات للدراسات الاستراتيجيَّة!)، الذي ذهب إلى أن المسجد الأقصَى يقع في وادي (الجِعِرَّانة)، بين (مكَّة) و(الطائف)!(7) ذلك أن الرجل قد ابتهج جِدًّا بالعثور على وصفٍ أورده (الواقدي)(8) لمسجدٍ بالجِعِرَّانة بـ»الأقصَى»، يقع بالعُدوة القُصوى من الوادي، في مقابل مسجد آخر يوصف بـ»الأدنَى»، مُشيرًا إلى أن النبي أحرم منه بالعُمرة، بعد رجوعه من (غزوة حُنَين)، في السنة الثامنة للهجرة. فطفق (مردخاي) قائلًا: إذن، هو المسجد الأقصَى المقصود في سورة الإسراء! وما وردَ قطّ على امتداد التاريخ، لا في شِعر ولا في نثر، مثل هذا القول بأن في الدنيا مسجدًا يسمَّى باسم «المسجد الأقصَى» عدا مسجد القُدس.(9) وقد مرَّ بنا من هؤلاء الزاعمين: (كمال الصليبي)، الذي ذهب إلى أن (أورشليم) تقع في (النماص)، في بلاد (بني شِهر)، جنوب الجزيرة العربيَّة، ملصقًا الاسم بقرية (آل شريم). ثمَّ جاءنا (داوود) فأراد أن يقذف أورشليم مقذفًا آخَر شَمالًا، إلى مغارة ما في بلاد غامد!
وهكذا فهؤلاء الكُتّاب يختلفون في المكان الذي يزعمونه القُدسَ أو المسجد الأقصَى، ويتفقون في تهافت القول، وما وراء القول من لوثات الفكر والمآرب.(10) مهما يكن من أمر، فإن ما نحن بصدده هاهنا ليس سوى نموذجٍ قد خلت من قبله النماذج، وتلت من بعده نماذج، لكنه من أشدها تطرُّفًا وغرابة. ولنا معه وقفاتٌ لاحقة.
** ** **
(1) داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 201- 000. وراجع تفنيد ذلك في مقالاتنا السابقة. انظر مثلًا: http://khayma.com/faify/index551.html
(2) إن المؤدلَج أعور دائمًا، لا يرى إلّا ما يريد. ربما وصل عَوَره إلى نمط الإعلام القائل: «شهيد (...) استُشهدَ بعد تنفيذه عمليَّة تفجير، أو طَعْن...!». نتيجة تسييس الدِّين، وتوظيف مصطلحاته، كُلًّا بحسب هواه وعقيدته. كما في عصرنا هذا، عصر «الشهداء» بلا حدود، ونفاق الانتماءات.
(3) سِفر الملوك الأوَّل، الإصحاح 9: 26- 28. (4) انظر: داوود، 265- 000.
(5) سِفر حزقيال، الإصحاح 47: 10- 12. (6) انظر: داوود، 250- 000.
(7) شاهد قوله المبثوث على موقع «اليوتيوب»، في 27 أغسطس 2008: https://www.youtube.com/watch?v=6VwQg3JhA7g
(8) (1984)، كتاب المغازي، تحقيق: مارسدن جونس (بيروت: عالم الكتب)، 3: 958- 959.
(9) أمّا الوصف بـ«الأقصَى» فما كان يومًا حصرًا على مكان. وإنما وصفُ مسجد الجِعِرَّانة بالأقصَى كوصف (أبي طالب) (عَرَفَة) بـ«المَشعر الأقصَى» في بيته:
وبِالمَشعَرِ الأَقصَى إِذا عَمَدوا لَهُ (إِلالٍ) إِلى مُفضَى الشِّراجِ القَوابِلِ
غير أن نصوص الحديث النبوي الواردة في شأن الإسراء تحسم المقصود بالمسجد الأقصَى وأنه في «بيت المقدس»، كما سيأتي لاحقًا. على أن (الواقدي) لم يُشر من قريب ولا بعيد إلى ما أراده (مردخاي) وادَّعاه دليلَه المكتشف. ولم يكن وصف هذين المسجدَين بالأقصَى والأدنَى لديه إلّا تعريفًا بمكانَيها؛ ولذلك قال: «فأحرم من المسجد الأقصَى الذي تحت الوادي بالعُدْوَة القصوَى، وكان مصلَّى رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، إذا كان بالجِعِرَّانة، فأمّا هذا المسجد الأدنَى، فبناه رجل من قريش». ولم نقف على ذلك الوصف لدى أحدٍ غير الواقدي، حتى ممّن ن قلوا عنه خبره هذا، مثل (الطبري، (1967)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 3: 94). أمّا الجِعِرَّانة، ففي حدود الحَرم المكِّي، شمالًا شرقًا، لا تبعُد عن الكعبة إلّا مسافة 25 كيلًا تقريبًا؛ فلا تعدو قُرابة ضِعف المسافة بين الكعبة وجبل النور. ولذلك هي ميقات أهل مكَّة للعُمرة. وقد كان النبي يُحْرم بالعُمرة من هناك بصفةٍ اعتياديَّة وربما عاد إلى الجِعِرَّانة من فوره، ليلًا أو نهارًا. وما كان أمرًا استثنائيًّا، أو إعجازيًّا، الانتقال بين المكانين، لنبيٍّ أو غير نبيّ! بل أغلب الظنّ أن مسجد الجِعِرَّانة، الأقصَى والأدنَى، لم يكن لهما وجود إبّان قِصَّة الإسراء أصلًا، وذلك قبل الهجرة النبويَّة.
(10) ومن آخر ما وصل إلينا من الزحام خلال الأشهر الأخيرة تلك الزوبعة السياسيَّة في (مِصْر)، من زعم بعض الكُتّاب- مرجِّعًا كلام (مردخاي قيدار) نفسه- أن الأقصَى مسجد مختلَق في (الجِعِرَّانة)! إذ من الواضح أن (كامب ديفد) قد جعلتْ تُؤتي أُكلها، وأن طَور التطبيع قد أفضى إلى طَور البَيع. وهو اليوم بيعٌ علنيٌّ في السوق البيضاء، عبر وسائل النشر والإعلام والتأليف. كأنه يُخيَّل إلى هؤلاء أن إلغاء قُدسيَّة القُدس لدى المسلمين هو مفتاح السلام الذي ينشده المهزوم عسكريًّا وفكريًّا! غير أن إلغاء القدسيَّة لن يلغي القضيَّة الحقوقيَّة الإنسانيَّة، المتمثِّلة في أن اليهود محتلّون لتلك الأرض، وأن علاقتهم بـ(فلسطين) هي تاريخ احتلال، قديم حديث، ومنذ أن كان لهم وجود في الشرق الأوسط. فمساعي المتاجرين بالتاريخ لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، وفي سبيل إراحة الأنظمة من الديزنتاريا السياسيَّة لينعموا باسترخائهم الأبدي، وتخدير ضمائر الشعوب ضدّ الزُّحار القومي، كلّ ذاك لن يسكِّن أوجاع القضيَّة. لأن حقوق الشعوب لا تموت بتصريح مسروق أو بندوة أو بكتاب أو بثورة مضادَّة، وإنما التنظير التاريخي لسياسات الاستسلام فضيحة أكاديميَّة تتوَّج بها الفضائح العسكريَّة والحضاريَّة العربيَّة الحديثة. ولسوف يتحوّل الزُّحار إلى سرطان في الأقطار العربيَّة عمّا قريب، مهما داهن الساسة ونظَّر لهم أُجَراء المؤرِّخين. وما تلك سوى حكمة النعامة، تبتغي بدسّ رأسها في الرمال سلامًا بصريًّا مؤقَّتًا، لعجزها عن مواجهةٍ واقعيَّةٍ ضارية. ولن يُجدي (أحفادَ العَلْقَمِي) تاريخُهم؛ لأن عواقب دَورهم مع (هولاكو) ستحلّ بهم بعد أداء دَورهم من أجله. أمَّا دَورهم مع الحقّ والتاريخ، فأدهى وأمرّ، لو كانوا يعقلون. وبذا يَظهر أمامنا خطابان معاصران، يتوسّلان التاريخ، أحدهما يسعى إلى شطب قداسة القُدس عن المسلمين خاصَّة، وإنْ أمكن عن اليهود وعن النصارى في آن، يتبنَّى هذا مِصْريّون غالبًا، همّهم السلام مع إسرائيل، (يوسف زيدان، نموذجًا). وخطاب آخر يذهب إلى أبعد من ذلك، فيسعى إلى نقل (بني إسرائيل) وتاريخهم ومقدّساتهم جميعًا من (الشام) إلى جزيرة العرب؛ كي ينقل مسرح الصراع بعيدًا عنه فيستريح، ويتبنّى هذا غالبًا شاميّون أو عراقيّون، منهم مَن درسنا في هذه المقالات ومنهم مَن لم ندرس. وهذان النمطان من الخطاب سياسيّان في الجوهر، لا عِلْميَّانما ولا تاريخيَّان.